زاد المعاد - هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيام الليل
كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل.
هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيام الليل
قد اختلف السلفُ والخلف في أنه: هل كان فرضًا عليه أم لا؟ والطائفتان احتجوا بقوله تعالى: {وَمِنَ الْلَيْلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإِسراء:79] قالوا: فهذا صريح في عدم الوجوب، قال الآخرون. أمره بالتهجد في هذه السورة، كما أمره في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا المزَّمِّلُ قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا} [المزمل:1] ولم يجيء ما ينسخُه عنه، وأما قولُه تعالى: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] فلو كان المرادُ به التطوعَ، لم يخصه بكونه نافلة له، وإنما المراد بالنافلة الزيادة، ومطلقُ الزيادة لا يدل على التطوع، قال تعالى: {وَوَهَبنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72]، أى زيادة على الولد، وكذلك النافلة في تهجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيادة في درجاته، وفي أجره ولهذا خصه بها، فإن قيامَ الليل في حق غيره مباحٌ، ومكفِّر للسيئات، وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد غَفَرَ اللهُ له ما تقدم مِن ذنبه وما تأخر، فهو يعمل في زيادة الدرجات وعلو المراتب، وغيره يعمل في التكفير.
قال مجاهد: إنما كان نافلةً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكانت طاعته نافلة، أي: وزيادة في الثواب، ولغيره كفارة لذنوبه، قال ابن المنذر في تفسيره: حدثنا يعلى بن أبي عبيد، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن، مجاهد قال: ما سوى المكتوبة، فهو نافلة مِن أجل أنه لا يعمل في كفارة الذنوب، وليست للناس نوافل، إنما هي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، والناس جميعًا يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها.
حدثنا محمد بنُ نصر، حدثنا عبد الله، حدثنا عمرو، عن سعيد وقبيصة، عن سفيان، عن أبي عثمان، عن الحسن في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَكَ} [الإسراء:79]، قال: لا تكون نافلة الليل إلا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر عن الضحاك، قال: نافلة للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة.
وذكر سُليم بن حيان، حدثنا أبو غالب، حدثنا أبو أمامة، قال: إذا وضعتَ الطهورَ مواضعه، قمتَ مغفورًا لك، فإن قمتَ تصلي، كانت لك فضيلةً وأجرًا، فقال رجل: يا أبا أمامة، أرأيت إن قام يصلي تكون له نافلة؟ قال: لا، إنما النافلةُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يكون له نافلة، وهو يسعى في الذنوب والخطايا؟! تكون له فضيلة وأجرًا قلتُ: والمقصودُ أن النافلة في الآية، لم يُرد بها ما يجوز فعلُه وتركه، كالمستحب، والمندوب، وإنما المراد بها الزيادة في الدرجات، وهذا قدر مشترك بين الفرض والمستحب، فلا يكون قوله: {نَافِلَة لَكَ} نافيًا لما دلَّ عليه الأمر من الوجوب، وسيأتي مزيدُ بيان لهذه المسألة إن شاء الله تعالى، عند ذكر خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدع قيامَ الليل حضرًا ولا سفرًا، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. فسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: في هذا دليل على أن الوتر لا يُقض لفوات محله، فهو كتحية المسجد، وصلاةِ الكسوف والاستسقاءِ ونحوها، لأن المقصودَ به أن يكون آخرُ صلاة الليل وترًا، كما أن المغرب آخر صلاة النهار، فإذا انقضى الليل وصليت الصبح، لم يقع الوتر موقعَه. هذا معنى كلامه. وقد روى أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخُدري، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « » ولكن لهذا الحديث عدة علل.
أحدُها: أنه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
الثاني: أن الصحيح فيه أنه مرسل له عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الترمذي. هذا أصح، يعني المرسل.
الثالث : أن ابن ماجه حكى عن محمد بن يحيى بعد أن روى حديث أبى سعيد: الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « ». قال: فهذا الحديث دليل على أن حديث عبد الرحمن واهٍ.
وكان قيامُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاثَ عشرة، كما قال ابن عباس وعائشة، فإنه ثبت عنهما هذا وهذا، ففي (الصحيحين) عنها: ما كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة. وفى (الصحيحين) عنها أيضًا، كان رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي من الليل ثلاثَ عشر ركعة، يُوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخِرِهِن والصحيح عن عائشة الأول: والركعتان فوق الإِحدى عشرة هما ركعتا الفجر، جاء ذلك مبينًا عنها في هذا الحديث بعينه، كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر، (ذكره مسلم في صحيحه).
وقال البخاري: في هذا الحديث: كان رسول الله صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي بالليل ثلاثَ عشرة ركعة، ثم يُصلي إذا سمع النداء بالفجر ركعتين خفيفتين وفي (الصحيحين) عن القاسم بن محمد قال: سمعتُ عائشة رضي الله عنها تقول: كانت صلاةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل عشرَ ركعات، ويُوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، وذلك ثلاثَ عشرة ركعة، فهذا مفسر مبين.
وأما ابنُ عباس، فقد اختلف عليه، ففي (الصحيحين) عن أبي جمرة عنه: كانت صلاةُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثَ عشرة ركعةً يعني بالليل لكن قد جاء عنه هذا مفسرًا أنها بركعتي الفجر. قال الشعبي: سألتُ عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن صلاةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل، فقالا: ثلاثَ ركعات ركعة، منها ثمان، ويُوتر بثلاث، وركعتين قبل صلاة الفجر. وفي (الصحيحين) عن كُريب عنه، في قصة مبيته عند خالته ميمونة بنت الحارث، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ، فلما تبيَّن له الفجرُ، صلَّى ركعتين خفيفتينِ وفي لفظ: فصلَّى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذِّنُ. فقام فصلَّى ركعتين خفيفتين، ثم خرج يُصلي الصبح. فقد حصل الاتفاقُ على إحدى عشرة ركعة واختلف في الركعتين الأخيرتين هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما.
فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض والسنن الراتبة التي كان يُحافظ عليها، جاء مجموعُ ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة، كان يُحافظ عليها دائمًا سبعة عشر فرضًا، وعشر ركعات، أو ثنتا عشرة سنة راتبة، وإحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة قيامه بالليل، والمجموع أربعون ركعة، وما زاد على ذلك، فعارض غيرُ راتب، كصلاة الفتح ثمان ركعات، وصلاة الضحى إذا قَدِمَ من سفر، وصلاته عند من يزوره، وتحية المسجد ونحو ذلك، فينبغي للعبد أن يُواظب على هذا الورد دائمًا إلى الممات، فما أسرع الإِجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعُه كلَّ يوم وليلة أربعين مرة. والله المستعان.
فصل: في سياق صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل ووتره وذكر صلاة أول الليل.
قالت عائشةُ رضي الله عنها: ما صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِشاء قطُّ فدخل علي، إلا صلَّى أربع ركعات، أو ست ركعات، ثم يأوي إلى فراشه.
وقال ابن عباس لما بات عنده: صلَّى العِشاء، ثم جَاء، ثُمَّ صلَى، ثم نام ذكرهما أبو داود. وكان إذا استيقظ، بدأ بالسواك، ثم يذكُر الله تعالى، وقد تقدم ذكرهما كان يقوله عند استيقاظه، ثم يتطهر، ثم يُصلى ركعتين خفيفتين، كما في (صحيح مسلم)، عن عائشة قالت: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل، افتتح صلاتَه بركعتينِ خفيفتين وأمر بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إذا قام أحدُكم مِن الليل، فليفتَتح صلاتَه بركعتين خفيفتين" (رواه مسلم) وكان يقومُ تارة إذا انتصف الليلُ، أو قبله بقليل، أو بعدَه بقليل، وربما كان يقوم إذا سمع الصارِخَ وهو الدِّيكُ وهو إنما يصيح في النصف الثاني، وكان يقطع ورده تارة، ويصله تارة وهو الأكثر، ويقطعه كما قال ابن عباس في حديث مبيته عنده، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استيقظ، فتسوَّك، وتوضأ، وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، والأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الألبَاب} [آل عمران:190] فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلَّى ركعتين أطال فيهما القيامَ والركوع والسجودَ، ثم انصرف، فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاثَ مرات بست ركعات كل ذلك يَستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأَذن المؤذِّن؟ فخرج إلى الصلاة وهو يقول: « » (رواه مسلم).
ولم يذكر ابنُ عباس افتتاحَه بركعتين خفيفتين كما ذكرته عائشة، أنه كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وَإِمَّا أن تكون عائشةُ حفظت ما لم يحفظ بن عباس، وهو الأظهر لملازمتها له، ولمراعاتها ذلك، ولكونها أعلمَ الخلق. بقيامه بالليل، وابنُ عباس إنما شاهده ليلة المبيت عند خالته، وإذا اختلف ابنُ عباس وعائشة في شيء من أمر قيامِه بالليل، فالقولُ ما قالت عائشة.
وكان قيامُه بالليل ووِترُه أنواعًا، فمِنها هذا الذي ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: الذي ذكرته عائشة، أنه كان يفتتح صلاته بركعتين. ثم يُتمم ورده إحدى عشرة ركعة، يُسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة.
النوع الثالث: ثلاث عشرة ركعة كذلك.
النوع الرابع: يُصلي ثمانَ ركعات، يُسلم من كل ركعتين، ثم يُوتر. سردًا متوالية، لا يجلس في شيء إلا في آخرهن.
النوع الخامس: تسع ركعات، يسرُد منهن ثمانيًا لا يجلِس في شيء إلا في الثامنة، يجلِس يذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يُصلي التاسعة، يسلم ثم يقعد، ويتشهد، ويُسلِّم، ثم يُصلي ركعتين جالسًا بعدما يسلم.
النوع السادس: يُصلي سبعًا كالتسع لمذكورة، ثم يُصلي بعدها ركعتين جالسًا.
النوع السابع: أنه كان يُصلي مَثنى مَثنى، ثم يُوتر بثلاث لا يفصِل بينهن فهذا رواه الإِمام أحمد رحمه الله عن عائشة، أنه كان يُوتِر بثلاث لا فصل فيهن وروى النسائي عنها: كان لا يُسلم في ركعتي الوتر وهذه الصفة فيها نظر، فقد روى أبو حاتم بن حبان في (صحيحه) عن أبي هريرة، النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ». قال الدارقطني: رواته كلهم ثقات، قال مهنا: سألتُ أبا عبد الله: إلى أي شيء تذهب في الوتر، تُسلم في الركعتين؟ قال: نعم. قلتُ: لأَي شيء؟ قال: لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعتين. الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سلم من الركعتين وقال حرب: سئل أحمد عن الوتر؟ قال: في الركعتين. وإن لم يسلم، رجوت ألا يضرَّه، إلا أن التسليم أثبتُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال أبو طالب: سألتُ أبا عبد الله: إلى أي حديث تذهب في، الوتر؟ قال: أذهب إليها كلِّها: مَنْ صلَّى خمسًا لا يجلس إلا في آخرهن، ومن صلَّى سبعًا لا يجلس إلا في آخرهن، وقد روي فَي حديث زرارة عن عائشة: يُوتر بتسع يجلَس في الثامنة قال: ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة، فأنا أذهبُ إليهاَ. قلت: ابن مسعود يقول: ثلاث، قال: نعم، قد عاب على سعد ركعة، فقال له سعد أيضًا شيئًا يرد عليه.
النوع الثامن: ما رواه النسائي، عن حُذيفة، أنه صلَّى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رمضان، فركع، فقال في ركوعه: (سُبْحَانَ رَبيَ الْعَظيمِ) مثل ما كان قائمًا، ثم جلس يقول: (رَبِّ اغفرْ لي، رَبِّ اغْفِرْ لي) مثلَ مَا كان قائمًا. ثم سجد، فقال: (سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلًى) مثلَ ما كان قائمًا، فما صلَّى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة، وأوتر أوّل الليل، ووسطه، وآخرَه. وقام ليلة تامة بآية يتلوها ويردِّدُها حتى الصباح وهي: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادُكَ} [المائدة:118].
وكانت صلاته بالليل ثلاثةَ أنواع:
أحدها: وهو أكثرها: صلاته قائمًا.
الثاني: أنه كان يُصلي قاعدًا، ويركع قاعدًا.
الثالث: أنه كان يقرأ قاعدًا، فإذا بقي يسيرٌ مِن قراءته، قام فركع قائمًا، والأنواع الثلاثة صحت عنه.
وأما صفة جلوسه في محل القيام، ففي (سنن النسائي)، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي متربِّعًا قال النسائي: لا أعلم أحدًا روى هذا الحديثَ غيرَ أبي داود، يعني الحفري، وأبو داود ثقة، ولا أحسب إلا أن هذا الحديث خطأ والله أعلم.
وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالسًا تارة، وتارة يقرأ فيهما جالسًا، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، وفي (صحيح مسلم) عن أبي سَلَمة قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: كان يُصلي ثلاثَ عشرة ركعةً، يُصلي ثمانَ ركعات، ثم يُوتِر، ثم يُصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، ثم يُصلي ركعتين بين النداءِ والإِقامةِ مِن صلاة الصبح وفي (المسند) عن أم سلمة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس وقال الترمذي: روي نحوُ هذا عن عائشة، وأبي أمامة، وغيرِ واحدٍ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي (المسند) عن أبي أمامة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما ب {إِذَا زُلزِلَت} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وروى الدارقطني نحوَه من حديث أنس رضي الله عنه.
وقد أشكل هذا على كثير من الناس، فظنوه معارضًا، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
». وأنكر مالك رحمه الله هاتين الركعتين، وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعُ مَنْ فعله، قال: وأنكره مالك وقالت طائفة: إنما فعل هاتين الركعتين، ليبين جوازَ الصلاة بعد الوتر، وأن فعله لا يقطع التنفُّل، وحملوا قولُه: « » على الاستحباب، وصلاة الركعتين بعده على الجواز.والصواب: أن يقال: إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة، وتكميل الوتر، فإن الوترَ عبادة مستقلة، ولا سيما إن قيل بوجوبه، فتجري الركعتان بعده. مجرى سنة المغربِ مِن المغرب، فإنها وِتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل، والله أعلم.
ولم يُحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قنت في الوتر، إلا في حديث رواه ابن ماجه، عن علي بن ميمون الرَّقي، حدثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان، عن زُبيد اليامي، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُوتر فيقنُت قبل الركوع وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: أختار القنوت بعد الركوع، إنَّ كُلَّ شيء ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت، إنما هو في الفجر لمَا رفع رأسه من الركوع، وقنوت الوتر أختارُه بعد الركوع، ولم يصحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنوت الوتر قبلُ أو بعدُ شيء.
وقال الخلاَّل: أخبرني محمد بن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر؟ فقال: ليس يُروى فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء، ولكن كان عمر يقنُت من السنة إلى السنة.
وقد روى أحمد وأهل (السنن) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علَّمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلماتٍ أقولهن في الوتر: «
» زاد البيهقي والنسائي: « ». وزاد النسائي في روايته: « »، وزاد الحاكم في (المستدرك) وقال: "علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود". (ورواه ابن حبان في صحيحه) ولفظه سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو.قال الترمذي: وفي الباب عن علي رضي الله عنه، وهذا حديث لا نعرِفُه إلا مِن هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي، واسمه ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت في الوتر شيئًا أحسنَ مِن هذا انتهى.
والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر، وابن مسعود، والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر، والروايةُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنوت الفجر، أصح الرواية في قنوت الوتر. والله أعلم.
وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في آخر وتره: «
». وهذا يحتمِل، أنه قبل فراغه منه وبعده، وفي إحدى الروايات عن النسائي: كان يقولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلاته، وتبوَّأَ مضجعه، وفي هذه الرواية: « » وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ذلك في السجود، فلعله قاله في الصلاة وبعدها.وذكر الحاكم في (المستدرك) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووتره: ثم أوتر، فلما قضى صلاته، سمعته يقول: «
».قال كُريب: وسبع في القنوت، فلقيتُ رجلًا مِن ولد العباس، فحدثني بهن، فذكر: "لَحْمِي وَدَمِي، وَعَصَبي وَشَعْرِي وَبَشَرِي"، وذكر خصلتين، وفي رواية النسائي في هذا الحديث، وكان يقولُ في سجوده وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح، وهو يقول... فذكر هذا الدعاء، وفي رواية له أيضًا، « » ، وفي رواية له، « ».
وذكر أبو داود، والنسائي من حديث أبي بن كعب، قال: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الوتر، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ}، فإذا سلم قال: « ». وهذا لفظ النسائي. زاد الدارقطني « ».
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقَطِّعُ قراءتَه، ويقِفُ عِندَ كُلِّ آيَةٍ فيقول: « {الحَمْدُ للِه رَبِّ العَالَمِين} {الرَّحمنِ الرَّحِيم} {مَالِك يَوْمِ الدِّين}».
وذكر الزهري أن قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت آية آية، وهذا هو الأفضل، الوقوفُ على رؤوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها، وذهب بعضُ القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد، والوقوف عند انتهائها، واتباعُ هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته أولى. وممّن ذكر ذلك البيهقى في (شعب الإِيمان) وغيره، ورجح الوقوف على رؤوس الآي وإن تعلقت بما بعدها. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرتِّل السورة حتى تكون أطولَ مِنْ أَطْوَلِ منها، وقام بآَية يُرَدِّدُهَا حتى الصباح. وقد اختلف الناسُ في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة: أيهما أفضل؟ على قولين.
فذهب ابنُ مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرُهما إلى أن الترتيلَ والتدبر مع قلة القراءة أفضلُ مِن سرعة القراءة مع كثرتها. واحتج أربابُ هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمُه وتدبُّره، والفقهُ فيه والعملُ به، وتلاوتُه وحفظُه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف: نزل القرآن لِيعمَل به، فاتخذوا تلاوته عملًا، ولهذا كان أهلُ القرآن هم العالِمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس مِن أهله وإن أقام حروفه إقامةَ السهم.
قالوا: ولأن الإِيمان أفضلُ الأعمال، وفهم القرآن وتدبُّره هو الذي يُثمر الإِيمان، وأما مجردُ التلاوة من غير فهم ولا تدبر، فيفعلها البرُّ والفاجرُ، والمؤمن والمنافق، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
».والناس في هذا أربع طبقات: أهلُ القرآن والإِيمان، وهم أفضل الناس.
والثانية: من عَدِم القرآن والإِيمان.
الثالثة: من أوتي قرآنًا، ولم يُؤت إيمانًا.
الرابعة: من أوتي إيمانًا ولم يُؤت قرآنًا.
قالوا: فكما أن من أوتي إيمانًا بلا قرآن أفضلُ ممن أوتي قرآنًا بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبرًا، وفهمًا في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر. قالوا: وهذا هديُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان يرتِّل السورة حتى تكون أطولَ من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح.
وقال أصحابُ الشافعي رحمه الله: كثرة القراءة أفضلُ، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « » (رواه الترمذي، وصححه).
قالوا: ولأن عثمان بن عفان قرأَ القرآن في ركعة، وذكروا آثارًا عن كثير من السلف في كثرة القراءة.
والصواب في المسألة أن يُقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجلُّ وأرفعُ قدرًا، وثوابَ كثرة القراءة أكثرُ عددًا، فالأول: كمن تصدَّق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمتُه نفيسة جدًا، والثاني: كمن تصدَّق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتُهم رخيصة، وفي (صحيح البخاري) عن قتادة قال: سألت أنسًا عن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: « ».
وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريعُ القِراءة، وربما قرأتُ القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابنُ عباس: لأن أقرأ سورةَ واحدة أعجبُ إِلَيَّ من أن أفعل ذَلِكَ الذي تفعل، فإن كنت فاعلًا ولا بد، فاقرأ قِراءَةً تُسْمعُ أُذُنَيْك، وَيعيها قلبُك.
وقال إبراهيم: قرأ علقمةُ على ابن مسعود، وكان حسنَ الصوت، فقال: رتِّل فِداك أبي وأمي، فإنه زينُ القرآن.
وقال ابن مسعود: "لاَ تَهُذُّوا القُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلاَ تَنْثُرُوه نَثْرَ الدَّقَل، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، وَلاَ يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ".
وقال عبد الله أيضًا: إذا سمعتَ الله يقول: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأصغِ لها سمعك، فإنه خيرٌ تُؤمر به، أو شرٌّ تُصرف عنه. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: دخلت عليَّ امرأة وأنا أقرأُ (سورةَ هُود) فقالت: يا عبد الرحمن: هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستةِ أشهر وما فرغتُ مِن قراءتها.
وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسرُ بالقراءة في صلاة الليل تارة، ويجهر بها تارة، ويُطيل القيام تارة، ويخفِّفه تارة، ويُوتر آخر الليل وهو الأكثر وأوَّله تارة، وأوسطَه تارة.
وكان يُصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قِبَلَ أي جهة توجهت به، فيركع ويسجد عليها إيماءً، ويجعل سجودَه أخفضَ مِن ركوعه، وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك، قال: "كانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يُصلي على راحلته تطوعًا، استقبل القبلة، فكبر للصلاة، ثم خلّى عن راحلته، ثم صلَّى أينما توجهت به" فاختلف الرواة عن أحمد: هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه؟ على روايتين: فإن أمكنه الاستدارةُ إلى القبلة في صلاته كلِّها مِثلَ أن يكون في مَحْمِل أو عمارية ونحوها، فهل يلزمه، أو يجوز له أن يُصلِّيَ حيث توجهت به الراحلةُ؟ فروى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن صلَّى في مَحْمِلٍ: أنه لا يُجزئُه إلا أن يستقبل القبلة، لأنه يمكنه أن يدور، وصاحب الراحلة والدابة لا يُمكنه.
وروى عنه أبو طالب أنه قال: الاستدارةُ في المَحْمِلِ شديدة يُصلي حيث كان وجهه. واختلفت الرواية عنه في السجود في المَحْمِلِ، فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال: وإن كان مَحْمِلًا فقدر أن يسجد في المَحْمِل، فيسجد.
وروى عنه الميموني، إذا صلَّى في المَحْمِلِ أحبُّ إليَّ أن يسجد، لأنه يمُكنه.
وروى عنه الفضل بن زياد: يسجد في المَحْمِلِ إذا أمكنه وروى عنه جعفر بن محمد: السجود على المِرْفَقَةِ إذا كان في المَحْمِلِ، وربما أسند على البعير، ولكن يُومىء ويجعل السجودَ أخفضَ مِن الركوع، وكذا روى عنه أبو داود.
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف:
- المصدر: