ظاهرة قسوة القلب... الأعراض والعلاج

منذ 2014-10-17

إن من يدرك خطر مرض قسوة القلب في الدنيا والآخرة، ويشعر بعظم فداحة الآثار المترتبة عليه، لا شك أنه سيسارع إلى معالجته ومداواته.

كنت أتمنى أن تكون قسوة القلب مقتصرة على فئة معينة من أصحاب النفوذ والمال والسلطان، ممن استخدم نعم الله فيما لا يحل له، الأمر الذي أورث في قلبه قسوة وشدة، ونزع منه الرحمة والرأفة المفترضة في قلب المسلم، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك، فقسوة القلب لم تعد حكرًا على هذه الفئة من الناس فحسب، بل باتت تشمل دائرة أوسع ومجالًا أرحب وللأسف الشديد.

لست أتحدث عن قسوة القلب التي ترادف الكفر و عدم الإيمان بصدقية القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أتحدث عن قسوة القلب كمرض من أمراض القلوب، والتي تعتري قلوب المسلمين بمختلف درجاتها، بدءًا من القسوة التي يعاني منها المسلم الملتزم بدينه من خلال تأديته للفرائض والواجبات الشعائرية دون التعاملية والأخلاقية والسلوكية، وانتهاء بقسوة القلب التي قد تجعل المسلم قاب قوسين أو أدنى من العتاة والمستكبرين والعياذ بالله تعالى.

وإذا كان قوله تعالى {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] يشير إلى المقارنة بين من أفسح الله قلبه لمعرفته، والإقرار بوحدانيته، والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته، فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين، وبين من أقسى الله قلبه، وأخلاه من ذكره، وضيقه عن استماع الحق، واتباع الهدى، والعمل بالصواب؟

فتوعدهم الله بالويل بقوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] حيث جفت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت -يعني عن القرآن الذي أنزله تعالى مذكرًا به عباده - فلم يؤمن به، ولم يصدّق بما فيه، وقد ذكر بعضهم أنه أبو جهل وجماعته (الطبري [21/277]).

 

فإن عموم الآية يشير إلى كل من ابتلي بهذا الداء الروحي والمرض القلبي، الذي بات من أكثر الأدواء انتشارًا وأشدها فتكًا بقلوب المسلمين، فالقلب وإن كان في الأصل مخلوق لقابلية التأثر بآيات الله وعظمته، ولمعاملة الناس بالرأفة والرحمة واللين، إلا أنه قد ينقلب إلى أشد من الحجر في القسوة والغلظة والصلابة، إذا عرض عليه عارض الجحود والكفر والاستكبار على آيات الله، تمامًا كما فعل بنو إسرائيل حيث وصلوا إلى مرحلة شدة قسوة القلب التي وصفها الله تعالى بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].

يقول ابن كثير: أنزل الله هذه الآية توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى -لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض. فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا- ثم بعد كل هذه الآيات قست قلوبكم فهي لا تلين أبدًا، وهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريًا، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه  (تفسير ابن كثير [1/304]).

وإن من يجول ويصول في الكثير من أماكن اجتماع الناس، كالمصانع والدوائر الحكومية والأسواق وغيرها، يجد أن هذا الداء قد بات يهدد الكثير من القلوب، من خلال المشاهد المثيرة التي يراها، والتي تشير إلى القسوة في التعامل، والشدة في شؤون المسلمين فيما بينهم.

 

أعراض هذا المرض

كثيرة هي الأعراض التي تشير إلى قسوة قلب المسلم، فتجعله بعيدًا عن الله تعالى قريبًا من المعصية، ولعل من أهم هذه الأعراض:

[1]- جمود العين عن البكاء من خشية الله: فإن من علامات القلب السليم اللين والخشوع من ذكر الله، وسرعة دمع العين والبكاء لمجرد تلاوة آياته وذكره سبحانه، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...} [الزمر:23].
وقد حذر الله تعالى المؤمنون أن يشابهوا أهل الكتاب وبنو إسرائيل في قسوة القلب وشدته فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع فيقول «... اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها» (صحيح مسلم برقم [2722]).
يقول ابن القيم رحمه الله: "ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي" وكان كثير من السلف يحب أن يكون من البكائين، ويفضلونه على بعض من الطاعات، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار" (بدائع الفوائد [3/743]).

وكم أضحت عيون بعض المسلمين اليوم جامدة لا تذرف من خشية الله ولا من ذكره، وكم أصبح البكاء من خشيته سبحانه اليوم عزيزًا، الأمر الذي يشير إلى وجود هذا المرض وانتشاره بين المسلمين.

[2]- ظلم الناس وسوء معاملتهم: وهذا ما نراه يزداد يومًا بعد يوم وللأسف الشديد، فرب العمل لا يرحم العامل الذي يعمل عنده ولا يعطيه حقه، ومن عنده خادم -أو خادمة- لا يعامله كما أمر الإسلام، بل يقسو عليه ويشتد ولا يرحم ضعفه وفقره.... فسوء معاملة القوي من المسلمين للضعيف والغني للفقير من أكثر مظاهر وأعراض قسوة القلب وضوحًا وظهورًا.

[3]- حب الدنيا وكراهية الموت: فقسوة القلب تزيد من تعلق المسلم بالدنيا، وتنسيه لقاء الله والدار الآخرة، ومن المعلوم أن «حب الدنيا وكراهية الموت» هو سبب الوهن الذي يصيب الأمة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (سنن أبي داود برقم [4299] وصححه الألباني).

ولا يخفى على أحد مدى انتشار حب الدنيا بين قلوب المسلمين، وشدة تعلقهم بها وبزخرفها وزينتها وأهوائها، وابتعادهم بنفس هذا الحب والتعلق عن الآخرة ونعيمها والقيام بحقوقها وواجباتها، الأمر الذي يعتبر مقياسًا لمرض قسوة القلب.

[4]- عدم التأثر بالموعظة وتلاوة القرآن: فكثير من المسلمين اليوم يسمعون المئات من المواعظ عبر وسائل الاتصال الحديثة، بل إن آيات القرآن الكريم تتلى في كل بيت ومصنع ومركب، إلا أن التأثر بكل ذلك قليل ونادر، الأمر الذي يشير إلى قسوة في القلب وضعف في الإيمان.

[5]- استسهال ارتكاب المعصية واستثقال أداء الطاعة: فلا يجد المصاب بمرض قسوة القلب في نفسه وازعًا يمنعه عن ارتكاب المعصية، ولا يشعر بالندم بعد ارتكابها، بينما يستثقل القيام بأداء الفرائض، فضلًا عن السنن والنوافل.

ولعل من أسوأ عواقب استسهال ارتكاب الذنوب بسبب قسوة القلب، حصول الران الذي ذكره الله تعالى بقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، والذي نبه إلى خطره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}» (سنن الترمذي برقم [3334] وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم [3422]).

 

علاج قسوة القلب

إن من يدرك خطر مرض قسوة القلب في الدنيا والآخرة، ويشعر بعظم فداحة الآثار المترتبة عليه، لا شك أنه سيسارع إلى معالجته ومداواته، يقول مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: "مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، وَمَا غَضِبَ الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم".

وإذا كانت وسائل العلاج كثيرة ومتنوعة، فإن من أكثر الوسائل المعينة للاستشفاء من هذا المرض والبرء منه:

[1]- تلاوة القرآن بخشوع: فتلاوة القرآن بتدبر وحضور تلين القلب القاسي، وتستدر الدمع من خشية الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولًا . وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109].
وقد كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابة مع كتاب الله، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إقرأ عليَّ القرآن»، قال: قلت: "يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟" قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري»، قال: "فقرأت النساء حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرأيت دموعه صلى الله عليه وسلم تسيل" (صحيح البخاري برقم [4306]).

وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} فلما بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} بكى حتى خرَّ وامتنع عن قراءة ما بعده. و قرأ رجلُ عند عمر بن عبد العزيز -وهو أمير على المدينة- قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13] فبكى حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه! فقام من مجلسه، فدخل بيته، وتفرَّق الناس.

[2]- الإكثار من ذكر الله تعالى: فهو من أسباب لين القلب وإزالة القسوة منه، خاصة إذا صاحبه بكاء من خشية الله، قال ابن القيم رحمه الله: إن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى. وذكر حماد بن زيد عن المعلى بن زياد أن رجلًا قال للحسن: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذبه بالذكر.
وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل (الوابل الصيِّب [ص 99]).

[3]- الإكثار من ذكر الموت: لأن قسوة القلب تأتي من تعلق القلب بالدنيا ونسيان الآخرة، فإذا أكثر المسلم من ذكر الموت وحضور الجنائز، فربما أذهب عنه ذلك تلك القسوة أو خفف من وطأتها.
كان سعيد بن جبير يقول: "لو فارق ذكر الموت قلوبنا ساعة لفسدت قلوبنا".

لم يعد مرض قسوة القلب إذن مرضًا استثنائيًا أو نادرًا كما كان عليه الأمر في زمن السلف الصالح، وإنما أضحى اليوم وباء يجتاح القلوب ويفسد الأرواح، ويحتاج بإلحاح إلى العلماء والدعاة الربانيين المختصين بعلاج أمراض القلوب والأرواح.

 

د. عامر الهوشان 

25/11/1435 هـ