الهمة العالية - الهمة العالية (42)- نماذج رائعة للهمة العالية- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
أما شجاعته فحدث ولا حرج فلقد كان وافر الشجاعة، قوي الشكيمة، لا يخشى أحداً، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولا يتردد في إعلان الحق والصدع به أيَّاً كان المخاطب به. ودافعه في ذلك مخافة الله، والحرص على إبراء الذمة، فمكانته تحتم عليه نبذ التخاذل، وله في ذلك مواقف محفوظة.
هو العلامة الجليل الشيخ أبو عبد العزيز محمد بن إبراهيم ابن عبد اللطيف ابن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً.
ولد الشيخ محمد في مدينة الرياض في حي دخنة في السابع عشر من شهر الله المحرم، عام أحد عشر وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ نشأة صالحة، وأخذ بأسباب المعرفة والعلم، فتلقى القرآن الكريم وهو ما بين الثامنة والعاشرة من عمره وقيل: إنه حفظ القرآن في الحادية عشرة، وقيل وهو في السادسة عشرة، وذلك على يد معلمه الشيخ عبد الرحمن ابن مفيريج.
وفي السادسة عشرة من عمره أصيب الرمد في عينيه، فكف بصره. ثم واصل بعد ذلك طلبة العلم، في مختلف الفنون، وتلقى على جلة من أكابر العلماء في عصره. وقد استفاض عنه أنه كان كثير الدأب في المطالعة في مختلف الكتب وتدريسها، فكان هذا مصدراً ثانياً أكسبه سعة من علمه وأفقه. وقد أعانه على ذلك ما عرف عنه من حدة الذكاء، ورجاحة العقل.
وقد لمس منه مشايخه الألمعية النادرة، والنجابة المبكرة، ورأوا منه مزايا عظيمة لا تتوافر إلا في القليل من الرجال، فأدركوا أنه الخليفة لهم، وأنه يمكن أن يطمئن إليه في مجالس العلم. ولقد صدقت نظرتهم في هذا الرجل، فلقد كان نسيج وحده في العلم والتعليم والصبر والجلد والحكمة والحنكة وبعد النظر.
وفيما يلي من أسطر نبذة عن بعض ملامح السمو والنبوغ والألمعية في حياة هذا الإمام الفذ:
أ. اشتغاله بالتدريس:
حين توفي عمه الشيخ عبد الله عام 1339هـ أخذ الشيخ محمد مجلسه، فبدأ التدريس إلى جانب مشايخه الذين ما زالوا على قيد الحياة. ولما توفي شيخه سعد بن حمد بن عتيق عام 1349هـ توسع في مجالس التدريس، فكثر رواده وقاصدوه، لما رأوا منه من غزارة العلم، وعظم الفائدة.
ولقد كان يعمر جل نهاره بالتدريس، حيث كان يجلس ثلاث جلسات منتظمة، فالأولى بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، والثانية بعد ارتفاع الشمس مدة تتراوح ما بين الساعتين إلى الأربع ساعات، والثالثة بعد صلاة العصر، وهناك جلسة رابعة لكنها ليست مستمرة، وهي بعد صلاة الظهر.
أما الكتب التي كان يدرسها فهي كثيرة، وفي فنون متنوعة، منها ألفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل، وزاد المستقنع مع شرحه الروض المربع، وبلوغ المرام، والآجرومية، والملحة، وقطر الندى، وعمدة الأحكام، وأصول الأحكام، والحموية، ونخبة الفكر، وكتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وثلاثة الأصول، والواسطية، وفتح المجيد، والطحاوية، وشرح الأربعين النووية، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن الأربعة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وابن كثير بدون استثناء، وكل ما جد من كتب السلف والمحققين من العلماء[1].
ولقد كان يعطي مجالس العلم حقها من الاحترام والتقدير، ويحرص على إيصال الفائدة للطلاب، حتى إنه ليكاد يغني شرحه عن مطالعة، وكان له طريقة بديعة في تدريسه ليس هذا مجال بسطها[2].
ب. أخلاقه وصفاته:
لقد كان يتمتع بأخلاق عالية، جعلت له مكانة في قلوب الخاصة والعامة. ولقد وهبه الله صفات كثيرة كانت سبباً في نبوغه وألمعيته. فمن صفاته البارزة حافظته النادرة التي كانت سبباً لتحصيله ثروة علمية واسعة. فهو يحفظ كثيراً من المتون، والقصائد المطولة، وكان وهو في أخريات حياته يصف مشاهداته قبل أن يكف بصره مع أنه كما مر عمي في السادسة عشرة من عمره.
وكان يحفظ المتن للقراءة الثالثة، وربما الثانية، وكانت المعاملة الطويلة التي تبلغ ثلاثمائة صفحة تقرأ عليه، ثم يملي ما يراه مستحضراً كل ما فيها من الجزئيات. ولم يكن غريباً منه أن يدل القارئين على مواضع الأبحاث في كتبها ذاكراً رقم الصفحة أحياناً.
ومما كان يتميز به طهارة القلب، فكان لا يحمل ضغينة على أحد أساء إليه، بل كان ديدنه الصفح والتجاوز، بل والمحافظة على سمعة من آذاه، والدفاع عنه من أن ينال بباطل. ولا غرو في ذلك، فهذه أخلاق العلماء والعظماء.
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العلا من طبعه الغضب
فهو من أولى من يأخذ بقوله تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وكان على قدر عظيم من التأمل، وبعد النظر فيما يعرض عليه من القضايا التي تجد تباعاً، ولم يكن يتعجل الأمر حتى يمعن في الدرس، والتأمل، والنظر في عواقب الأمور.
أما شجاعته فحدث ولا حرج فلقد كان وافر الشجاعة، قوي الشكيمة، لا يخشى أحداً، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولا يتردد في إعلان الحق والصدع به أيَّاً كان المخاطب به. ودافعه في ذلك مخافة الله، والحرص على إبراء الذمة، فمكانته تحتم عليه نبذ التخاذل، وله في ذلك مواقف محفوظة.
ومن السمات البارزة فيه ما آتاه الله من هيبة في نفوس الناس، وهو أمر يرجع إلى إجلاله، وتوقيره، ومعرفة الناس بصرامته في الحق، ولهذا يحسب محدثه حساباً شديداً إذا أراد أن يكلمه، خشية أن يزل بكلمة. وكان مع ذلك أنيساً عند مخالطته ألوفاً لمعاشرته، لا يتصف بشيء من الغلظة أو الجفاء أو الفظاظة وكان يحسن الفرق بين مجالس الجد والعمل ومجالس الراحة والإجمام. ومن عظيم أخلاقه أنه كان يتنزه عن الغيبة والحديث في الآخرين بما يكرهون وعرف بذلك منذ حداثة سنه حتى فارق الدنيا. وكان متورعاً متعففاً عن أخذ ما ليس له، أو ما يرى فيه شبهة، وكان حريصاً على أن لا يدخل نفسه في مداخل مشتبهة، ولم يعهد عنه أنه اشتغل بالبيع أو الشراء، لا بالاستقلال ولا بالمشاركة.
وكان معروفاً بالبذل والسخاء وبالأخص ما يتعلق بإكرام العلماء والقضاة وطلاب العلم، وكان لا يترك مناسبة مهمة إلا أقام لها الوليمة الكبيرة ودعاهم إليها.
ج. خشيته لله:
كان من أكثر الناس خشية لله، واستحضاراً لعظمته عز وجل فكثيراً ما يسمع وهو يلهج بذكر الله، واستغفاره، ثم يرى وعيناه تغرورقان بالدموع، وذلك حينما يكون في موقف مناجاة لله، أو حين يسمع بعض ما يحرك القلوب.
قال الشيخ محمد بن قاسم: "وكان ذلك يتجلى كثيراً فيما يحييه من الليل بالصلاة التي كان يواظب عليها في إقامته وسفره، وقد لا يعرف هذا كثير من الناس الذين لم يتصلوا به، وقد صحبته زمناً طويلاً، وهو يقوم ما يقرب من ساعة ونصف آخر الليل لا يترك ذلك"[3].
هـ. أعماله:
لقد تقلد الشيخ أعمالاً عظيمة، وأنيط به مهمات جسيمة. وهذه الأعمال، وتلك المهمات لا يقوم بها أولو القوة من الرجال، وذلك لكثرتها وتنوعها وصعوبتها. إلا أن الشيخ محمداً قام بها خير القيام، وذلك لكبر نفسه، وعلو همته، وقبل ذلك لإخلاصه، وتوفيق الله له.
وفيما يلي من أسطر ذكر لتلك الأعمال مع ملاحظة أن كثيراً من المهام التي قام بها وتولى رئاستها كانت في طور تأسيسها، ومعلوم ما في ذلك من المشقة:
1. التدريس: وقد مر بنا شيء من ذلك، وهو بحد ذاته عمل عظيم لو تفرغ له وحده.
2. الفتوى: فقد كان يشارك فيها حتى الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله، ثم استقل بها حتى تحولت أخيراً إلى عمل منظم في دار الإفتاء عام 1374هـ. وظل يقوم بالفتوى من خلال تلك الدار حتى وافته المنية، إلى جانب ما كان يكتبه في بيته من فتاوى وردود على بعض الكاتبين.
3. إمامه مسجد عمه الشيخ عبد الله من عام 1339هـ إلى قبيل وفاته.
4. رئاسة القضاء: ففي عام 1376هـ أنشئت رئاسة القضاة تحت رئاسة سماحته في نجد والمنطقة الشرقية والشمالية، وبعد وفاة سماحة الشيخ عبد الله بن حسن سنة 1378هـ رئيس القضاة بالحجاز والمنطقة الغربية، ضمت إلى الشيخ محمد رئاسة القضاة بالحجاز والمنطقة الغربية، فصار رئيس قضاة المملكة العربية السعودية، فكان يقوم بتمييز الأحكام التي تحتاج إلى نظره.
5. رئاسة الكليات والمعاهد العلمية منذ إنشائها عام 1370هـ، والتي أصبحت فيما بعد تسمى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
6. الإشراف على مدارس البنات منذ افتتاحها عام 1379هـ.
7. رئاسة الجامعة الإسلامية منذ افتتاحها عام 1381هـ.
8. رئاسة دور الأيتام، وضمت فيما بعد إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
9. رئاسة المعهد العالي للقضاء.
10. رئاسة المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي منذ إنشائها عام 1379هـ.
11. رئاسة المكتبة السعودية.
12. خطابة الجامع الكبير وإمامة العيدين.
13. الإشراف على نشر الدعوة الإسلامية في أفريقيا.
14. رئاسة المعهد الإسلامي في نيجيريا.
15. رئاسة مجلس القضاء الأعلى.
16. رئاسة مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية.
17. الإشراف على ترشيح الأئمة والمؤذنين.
18. تعيين الوعاظ والمرشدين.
19. بدأ في إنشاء مجلس هيئة كبار العلماء، وأثبت في ميزانية عام 1389هـ غير أن المنية وافت سماحته عام 1389هـ قبل أن يباشر أعماله.
فهذه نبذة عن أعماله الجبارة العظيمة التي لا تقوم به إلا من آتاه الله جلداً وقوة. وإن هذا ليدل على علو همته، وسعة علمه، ومقدرته الفذة، وثقة الناس به، وحاجتهم إليه[4].
---------------------
[1] (قال الشيخ عبدالعزيز مضيفاً: "ومسند الإمام أحمد بقراءة أخيه الشيخ عبداللطيف بعد الظهر").
[2] (انظر مقدمة الشيخ محمد بن قاسم لفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ص[13]، وارجع إلى محاضرة عن سيرة الشيخ محمد بن إبراهيم لحفيده الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ).
[3] (فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ص[19]).
[4] (انظر تفصيل الحديث عن سيرة الشيخ محمد بن إبراهيم إلى مقدمة فتاويه ورسائله التي جمعها الشيخ محمد بن قاسم [1/9-23]، وعلماء نجد خلال ستة قرون للشيخ عبدالله البسام [1/88-97]. وعلماؤنا لفهد البدراني، وفهد البراك).
محمد بن إبراهيم الحمد
دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم
- التصنيف: