مبرهنة جودل وعِلْمية الإيمان!
كانت ولا تزال هذا المبرهنة أكبر صفعة علمية لكل من يدعي متانة العلم وأنه نظام مغلق يمكن باستخدامه برهنة صحة أو خطأ أي معلومة سواءً كانت رياضية أو فيزيائية (تعتمد الفيزياء بشكلٍ أساسي على عِلم الرياضيات). وبالتالي أربكت مبرهنة جودل من يجعلون الحقيقة حِكرًا على ما يُقاس في المعمل أو ما يُستنتج رياضيًا.
يظن الكثير من الغرب والشرق أن الإيمان هو عملية تصديق ليس لها أي علاقة بالعلم ولا بالمنطق العلمي الحديث، وعلى الرغم من صدقهم في أن الإيمان هو نوع من التصديق اليقيني إلا أنهم غفلوا أو جهلوا أن العلم الحديث يحتوي أمثلة لمثل هذا التصديق الإيماني الذي لا يمكن برهانه. ونجد مثالًا واضحًا تم اكتشافه من قِبَلِ العالِم الفذ كيرل جودل (1906-1978)م في أكثر العلوم البشرية اتقانًا ونظامًا وهو علم الرياضيات وذلك فيما يُشتهر بمبرهنة جودل.
تعريفات هامة:
1- النظام الرياضي:
النظام الرياضي هو مجموعة من العبارات والعلاقات المنطقية المتناسقة التي تم استنتاجها من مجموعة محدودة من المسلَّمات المستقلة والمتناسقة.
2- المسلَّمة الرياضية:
أ- هي عبارة أو معلومة رياضية وُضعت بدون برهان.
ب- تكون المسلَّمة عادةً بديهية بالقدر الكافي الذي لا يدفع الإنسان للبحث عن برهان لها.
ج- لا يمكن برهان المسلمة.
ومن الخصائص "الممكنة" النظام الرياضي التناسق والتكامل.
3- التناسق:
يعني التناسق أن جميع مسلَّمات النظام الرياضي بل وجميع العلاقات المستنتجة داخل هذا النظام الرياضي غير متناقضة منطقيًا.
4- الكمال:
يعني كمال النظام الرياضي هو أنه يمكن استنتاج أي علاقة صحيحة داخل هذا النظام الرياضي بِدأً من مسلَّمات هذا النظام.
مبرهنة جودل:
تنص مبرهنة جودل أنه ما من نظام رياضي متناسق إلا ويحوى عبارة رياضية واحدة على الأقل صحيحة ولكن لا يمكن برهنة صحتها بدأً من مسلَّمات النظام الرياضي.
وعلى هذا، حسب مبرهنة جودل، لا يوجد نظام رياضي كامل إذا كان متناسقًا.
أثر مبرهنة جودل على المجتمع العلمي:
كانت ولا تزال هذا المبرهنة أكبر صفعة علمية لكل من يدعي متانة العلم وأنه نظام مغلق يمكن باستخدامه برهنة صحة أو خطأ أي معلومة سواءً كانت رياضية أو فيزيائية (تعتمد الفيزياء بشكلٍ أساسي على عِلم الرياضيات). وبالتالي أربكت مبرهنة جودل من يجعلون الحقيقة حِكرًا على ما يُقاس في المعمل أو ما يُستنتج رياضيًا.
مثال توضيحي:
المسلَّمة الخامسة لإقليدس (300 قبل الميلاد) والتي تنص أنه يمكن رسم خط مستقيم واحد وواحد فقط موازٍ لخطٍ مستقيم آخر من نقطة خارج هذا الأخير.
مكث العلماء أكثر من ألفي عام من يوم أصدرها إقليدس وهم مقتنعون -بما فيهم إقليدس نفسه- أنها ليست ببساطة وبديهية المسلَّمات الأربعة الأخرى، فلم يقتنع العلماء أنها مسلمة (بديهية)، فأخذ العلماء على عاتقهم مهمة إثباتها من باقي المسلَّمات ففشلوا فشلًا ذريعًا خلال ألفي عام من تاريخ العلم.
ظل ذلك الوضع المحرج للعقل البشري قائمًا حتى اضطلع بحل هذه المعضلة عقلٌ من أعظم عقول البشرية وهو عقل العالِم الكبير كارل جاوس (1777-1855)م وقال: أن الحل يكمن في أن هذه العبارة يمكن الاستغناء عنها تمامًا واستبدالها بعبارةٍ أخرى تنص أنه لا يمكن رسم أي خط مستقيم موازي لخط آخر من نقطة خارجه وبنى هندسة جديدة بناءًا على الخمس مسلَّمات الجديدة -الأربعة الأولى الذين نص عليهم إقليدس + المسلَّمة الخامسة لجاوس- وسُمي هذا النظام الهندسي فيما بعد وفاة جاوس ونشر العالِم برنارد ريمان (1826-1866)م لنفس النتائج بالهندسة "اللا إقليدسية".
وبالتالي فإن المسلَّمة الخامسة لإقليدس كانت صحيحة فقط في هندسة إقليدس ولا يمكن إثباتها في ظل هندسته، واتضح فيما بعد ثورة جودل العلمية أنها من نوع عبارات جودل الرياضية وهذا هو سبب عجز مئات العلماء عن برهنتها خلال ألفي عام من تاريخ الإنسانية.
هل يوجد إيمان داخل المنطق العلمي؟
بعد المقدمة التي استمتعنا بها معًا عن عدم كمال الرياضيات ومبرهنة جودل نجد أنه ما كان يُشكِّل حرجًا عِلميًا قبل عصر جودل وهو أن يقول شخصٌ ما: "أنا أؤمن أن هذه العلاقة سليمة ولكني أعجز عن برهانها" وذلك نتيجة لشواهد كثيرة ودﻻئل تدل على صحتها، أقول:
نجد أن مثل هذه العبارات أصبحت معتادة في المنطق العلمي الحديث وعليه فإن الإيمان بالدﻻئل دون إثبات أصبح مقبولًا، وأخرس ألسنة من يدعي أنه لو لم تُقدم برهانًا رياضيًا على حقيقية ميتافيزيائية مثل وجود الله عز وجل. وقيام الكون معتمدًا عليه مع وجود اﻷدلة الدامغة التي يراها اﻷعمى في قيظ الظهيرة، تكون العبارة خارجة عن المنطق العلمي. أبدًا أبدًا، إنها أصبحت في صميم المنطق العلمي.
بل أقول أن وجود الله هو ليس من نوع حقائق جودل بل هو مسلمة بديهية (أقوى منطقيًا من حقائق جودل الغير مبرهنة). وذلك لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فلا يستقيم وجود الكون دون وجود بارئه وهذا هو ما يدركه العقل السليم ولا ينكره إلا مماحك أو جاحد.
قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر:62] صدق الله العظيم.
والله أعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
- (القرآن الكريم).
- (كتاب: على مصطفى مشرفة ثروة خسرها العالم؛ تأليف: د. عطية مصطفى مشرفة).
http://en.wikipedia....mpleteness_the…
http://en.wikipedia....lidean_geometry
http://en.wikipedia.org/wiki/Gauss
http://en.wikipedia.org/wiki/Euclid
http://en.wikipedia....ernhard_Riemann
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي
- التصنيف: