المصحف الإلكتروني وأحكامه الفقهية المستجدة (2/2)

منذ 2014-11-08

مِمَّا عَمَّتْ به البلوى في هذا الزمان تباهي الناس حاملي بعض أنواع الهاتف النقال بأن رنة جهازه مجموعة من الآيات المحملة على ذاكرته، وإذا ما اتصل عليه أحد كان إشعار الاتصال سماع آيات قرآنية تتلى، أو أصوات الآذان تذاع من الجهاز، وهذا بدلاً من الإعدادات العادية المتمثلة في سماع أصوات رنين أو ألحان أو أناشيد. وكثيراً ما يتساءل الناس عن حكم اتخاذ هذه الآيات القرآنية وكلمات الآذان بمنزلة رنات إشعار اتصال بالهاتف النقال، وهل يعد ذلك من الاستخفاف بالقرآن؟

المسألة الثالثة

تحريم وضع المصحف الإلكتروني في المواضع النجسة

مما تقتضيه حرمة المصحف تنزيهه عن النجاسات وعن مواضعها، وقد أجمع الفقهاء قديماً وحديثاً على تحريم مس المصحف بموضع نجاسة في البدن، أو وضعه على نجاسة، أو تلطيخه بها من غير حاجة ولا ضرورة، وأن من استخف بشيء مما فيه أو ألقاه في القاذورات فقد كفر [1]. كما قطع بعضهم بتحريم الدخول به أو بجزء منه إلى الخلاء، وحمله فيه، إجلالاً له وتعظيماً واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه الذي نقش عليه محمد رسول الله [2].

قال علي المرداوي: "أما دخول الخلاء بمصحف من غير حاجة فلا شك في تحريمه قطعاً، ولا يتوقف في هذا عاقل" [3].

قال الأذرعي: "والمتجه تحريم إدخال المصحف ونحوه الخلاء من غير ضرورة، إجلالاً له وتكريماً"[4].

وقياساً على هذا الحكم المجمع عليه عند الفقهاء قدامى ومعاصرين فإن حكم المصحف الإلكتروني المنفصل، سواء كان مجرداً عن الزيادات التفسيرية أو كان مزوداً بها يلحق به من حيث تحريم مسه بنجاسة أو وضعه عليها أو تلطيخها بها، أو حمله والدخول به إلى الخلاء، من غير حاجة ولا ضرورة؛ لأن ذلك مما يتنافى مع حرمة القرآن المخزن فيه. هذا من حيث العموم، وأما تفصيلاً فإن هذا الحكم لا يصدق إلا في حالة ما إذا كان المصحف في وضْعِ التشغيل والآيات القرآنية ظاهرة على شاشته. أو كان في وضْعِ إغلاق، وقد كتب على غلافه آية أو أكثر. ولا يمنع شيء من تلك المحظورات إذا كان في حال إغلاق ولم يكتب على غلافه آيات قرآنية. ذلك لأن العبرة في المصحف الإلكتروني بحال التشغيل وحال عرض الآيات القرآنية المخزنة، غير أنه عند القدرة والاستطاعة يجتنب ذلك.

ولا فرق في هذا الحكم بين المصحف الإلكتروني الذي يضم بجانب القرآن تفاسير وترجمات وأحكام التلاوة والقراءات الأخرى، وبين المجرد عنها، ذلك لأن التنزيه واجب في حق المصحف المحمل وفي حق تلك العلوم الشرعية المدمجة مع المصحف أيضا، ولإجماع الفقهاء على وجوب تنزيه كتب التفسير والحديث والعلوم الشرعية، وأن من ألقى ورقة فيها من العلم الشرعي، أو فيها اسم الله تعالى، أو اسم نبي أو ملك في نجاسة أو لطخ ذلك بنجس، ولو معفوّاً عنه،حكم بكفره، إذا قامت الدلالة على أنه أراد الإهانة للشرع بذلك [5].

ويلحق بهذا الحكم أيضا حكم الهاتف النقَّال الذي حمل المصحف الإلكتروني على شريحته، فإنه لا يجوز إدخاله للخلاء ولا تعريضه للنجاسات مهما كان نوعها ومصدرها حال عرضه للقرآن الذي فيه، لكنه في حال الإغلاق واختفاء الآيات لا مانع من إدخاله للخلاء لأن ما خزن في ذاكرته ليس حروفاً وإنما هو ذبذبات وشفرات للحروف.
و يشمل حكم النهي أيضاً حكم المصحف المثبت على أقراص CD التي يكتب على غلافها عبارة تدل على أنها مصحف إلكتروني، فيحرم امتهانها وتدنيسها إذا كانت في حال عرض المصحف المُخَزَّن عليهـا، أو كان قد كتب على غلافها آية أو أكثر،وفي غير ذلك جاز الأمر.

المسألة الرابعة:

إعداد آيات من المصحف الإلكتروني رنة للهاتف النقال:

مِمَّا عَمَّتْ به البلوى في هذا الزمان تباهي الناس حاملي بعض أنواع الهاتف النقال بأن رنة جهازه مجموعة من الآيات المحملة على ذاكرته، وإذا ما اتصل عليه أحد كان إشعار الاتصال سماع آيات قرآنية تتلى، أو أصوات الآذان تذاع من الجهاز، وهذا بدلاً من الإعدادات العادية المتمثلة في سماع أصوات رنين أو ألحان أو أناشيد. وكثيراً ما يتساءل الناس عن حكم اتخاذ هذه الآيات القرآنية وكلمات الآذان بمنزلة رنات إشعار اتصال بالهاتف النقال، وهل يعد ذلك من الاستخفاف بالقرآن؟

والمتأمل في هذه المسألة يلحظ ما يلي:
أولاً: إن من تنزيه القرآن، ومراعاة حرمته، وآداب تلاوته ألا يقرأ إلا في المواضع النظيفة الطاهرة، والإنسان حين يأتيه اتصال من زميله، لا يدري أين يكون، لعله في الحمام أو الخلاء أو غير ذلك من المواضع النجسة، أو غيرها مما لا يليق بالقرآن الكريم، وهذه المواضع لا تصلح لشيء من القرآن؛ وذلك لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأعرابي الذي بال في المسجد: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة، وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن» [6]. ودل مفهوم المخالفة لهذا الحديث أن المواضع النجسة لا تصلح للصلاة ولا لذكر الله ولا لقراءة القرآن. وقد كره بعض الفقهاء من المالكية والحنابلة قراءة القرآن في الأسواق والطرق بسبب ما يكون فيها من النجاسات [7].

قال ابن الحاج نقلاً عن ابن رشد قوله: "وكره مالك قراءة القرآن في الأسواق والطرق لوجوه ثلاثة، أحدها: تنزيه القرآن وتعظيمه من أن يقرأ وهو ماش في الطرق والأسواق لما قد يكون فيها من الأقذار والنجاسات، والثاني: أنه إذا قرأ القرآن على هذه الأحوال لم يتدبره حق التدبر، والثالث: لما يخشى أن يدخله ذلك فيما يفسد نيته" [8].

وقال أيضا السفاريني من الحنابلة: "وتكره القراءة في المواضع القذرة" [9].

ثانياً: إنه مما أجمع عليه الفقهاء تحريم وضع شيء من القرآن الكريم أو ورقة فيها علم شرعي في الأماكن النجسة أو الدخول بها إلى الخلاء، وما يسمع عن طريق الهاتف النقال من آيات قرآنية أو كلمات الآذان حملت عليه داخل في ذلك الحكم، ويعد الذي جاءه اتصال وانبعثت قراءة القرآن من جهازه، وهو في مكان نجس كمن أدخل شيئًا من القرآن إلى المكان، إذ في هذه الحالة يكون الهاتف النقال في وَضْع تشغيل، والآيات منه تنبعث مسموعة محسوسة. وقد بينَّا في مسألة سابقة أن العبرة في المصحف الإلكتروني بوضع التشغيل وحال ظهور الآيات معروضة بشكل مكتوب أو مسموع.

وخلاصة القول في هذه المسألة أن حكم استعمال آيات القرآن وكلمات بمنزلة رنات للهاتف النقال المنع والحظر، لعدم الاحتراز عن اشتغال الجهاز وسماع التلاوة القرآنية في المواضع النجسة التي لا تليق بالقرآن الكريم أثناء طلب الاتصال، إذ الاتصال يأتي على حين غفلة، وفي قراءة تلك الآيات المحملة في تلك المواضع امتهان للقرآن واستخفاف به.

المسألة الخامسة:

رفع المصحف الإلكتروني على المواقع المشبوهة:

مما أجمع عليه الفقهاء بلا خلاف بينهم وجوب تنزيه المصحف الشريف وأجزائه مهما صغرت عن الامتهان والاستخفاف به، وكل عمل يعد من هذا القبيل يؤدي بفاعله إلى الحكم عليه بالكفر البواح إذا دلت الدلائل على أنه قاصد لذلك. فقد جاء عن الإمام النووي أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه، أو سب شيئاً منه، أو ألقاه في القاذورات، أو ألقى ورقة فيها شيء من القرآن، أو لطخ المصحف بنجس من غير عذر، ولا قرينة تدل على عدم الاستهزاء –وإن ضعفت- فهو كافر بإجماع المسلمين [10].

وإن من مظاهر الاستخفاف بالمصحف أيضاً إلحاق النجاسة به: بأن يوضع في مواضعها أو يكتب بها أو أن يمس ممن قام به حدث كالجنب، أو تمكين من كانت به نجاسة معنوية كالكافر من تناوله.

وإن بعض المواقع الإلكترونية المفتوحة، والمنتشرة على الشبكة العنكبوتية لا تراعي للقرآن حرمة، ولا ترى له قداسة، ولا تنزهه عما لا يليق به، ولا تفرق بين ملفاته وبين ملفات فنون الإغراء والافتتان بما حرم الله، فترفع الجميع على صفحتها الرئيسة دون تمييز.

ولا شك أن رفع المصحف الإلكتروني على مثل هذه المواقع يُعَدُّ ضرباً من الاستخفاف والاستهزاء بالقرآن الكريم، والامتهان له؛ ذلك لأنه ليس من حرمة المصحف أن يرفع بجوار ملفات أخرى فيها شعر ماجن وغناء سافل، وموسيقى صاخبة، وأخرى فيها إباحية صارخة، وكثيراً ما يصادف المرء أثناء عملية تحميل المصحف الإلكتروني من مثل هذه المواقع لافتات إشهارية مخزية، بل قد تظهر له أثناء تصفح آيات المصحف وسوره، وهو ما لا يليق بالمصحف، ولا يجيزه شرع ولا عقل.

وعليه فإنَّ مما تقتضيه حرمة المصحف وتنزيهه، الحكم بتحريم رفع المصحف الإلكتروني على مثل هذه المواقع المشبوهة التي لا يراعى فيها للمصحف حرمته الخاصة، ولا سيما إذا كان الرافع يقصد بذلك الاستخفاف والاستهزاء بالمصحف. وعلى من أراد أن يرفع مصحفاً إلكترونيًّا أن يرفعه على المواقع الإسلامية المعروفة بغيرتها على دين الله، ومراعاتها للشرع وأحكامه، فلا تمكن أن ترفع ملفات بجوار المصحف إلا إذا كانت هادية إلى سواء السبيل.

ومن أهم التوجيهات والنصائح التي نتوجه بها للعاملين في حقل البرمجة والمعلوماتية الإسلامية ما يلي:
أولاً: اعتماد قرار اللجان العلمية المتخصصة والخبيرة بتصحيح المصحف الإلكتروني قبل رفعه على الشبكة العنكبوتية تفادياً لنشر مصحف يتضمن أخطاء.

ثانياً: التنبيه على جملة الأخطاء الواقعة في بعض المصاحف الإلكترونية المرفوعة على بعض المواقع الإلكترونية.

ثالثاً: التحذير من المواقع الإلكترونية المشبوهة والمغرضة التي قام بعض أصحابها بنشر المصاحف الإلكترونية عليها، وتسميتها لجمهور المستعملين للشبكة العنكبوتية حتى يحذروها ويهجروها.

رابعاً: الدلالة على جملة المصاحف الإلكترونية الخالية من الأخطاء والمعتمدة من طرف لجان خبرة متخصصة في رسم المصاحف، مع تسمية مواقعها الموثوقة، وذكر روابطها لتسهيل استعمالها.

خامساً: ومما ينبه عليه بالنسبة للمستفيدين من الشبكة العنكبوتية اجتناب استعمال المصاحف الإلكترونية المرفوعة على المواقع المشبوهة، وتلك التي لا تعتمد على لجان المراقبة للمصاحف، لأن بعضها به أخطاء، وتنقصه الدقة المطلوبة في المصاحف.

 

المسألة السادسة: تمكين الكافر من مس المصحف الإلكتروني:

لقد أجمع الفقهاء على عدم جواز تمكين الكافر من مس المصحف لما حل به من نجاسة الشرك المعنوية، سواء أرُجي إسلامه أم لا، لقول الله تعالى: {إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ} ‘[التوبة من الآية:28]. وذهب الفقهاء إلى أبعد من ذلك حين منعوا تمكينه من مَسِّ دينار أو درهم فيه آية، وقد نقل ابن عبد البر إجماع الفقهاء على ذلك فقال: "وكره مالك وغيره أن يعطى الكافر درهماً أو ديناراً فيه سورة أو آية من كتاب الله تعالى". قال: "وما أعلم في هذا خلافاً إذا كانت آية تامة أو سورة"[11].

ويمنع عند بعضهم من مَسِّ المصحف حتى وإن طلبه بغية التدبر فيه، قال في المنتقى شرح الموطأ: "ولو أن أحداً من الكفار رغب أن يرسل إليه بمصحف لم يرسل به إليه؛ لأنه نجس جنب، ولا يجوز له مس المصحف، ولا يجوز لأحد أن يسلمه إليه"[12].

وأما بالنسبة للمصحف الإلكتروني فإنه بناء على ما تقدم في المسألة الأولى من أنه لا يتصور مس حقيقي للبرنامج الإلكتروني الذي سمي مصحفا إلكترونيّاً، وما المس الظاهري إلا للشاشة، والأجزاء المساعدة على تشغيل الجهاز، فإنه لا مانع من تمكين الكافر من مس هذه الأجزاء وحملها، والاستفادة منها؛ إذ لا دليل على المنع من ذلك. ولعل هذا الحكم يفسح مجالاً واسعاً لمن أراد من غير المسلمين أن يطلع على القرآن الكريم، ويتأمل بعض ما جاء فيه بشكل مباشر، دون حاجة إلى الترجمة، ولعله بذلك يدرك نفسه فيهتدي للحق، ولا سيما أنَّ منهم كثيراً من الباحثين عن حقيقة الإسلام يتوقون إلى معرفة حقائق الإسلام، وكنوز القرآن المعرفية، ومعالم الهداية فيه.

 

المسألة السابعة: السفر بالمصحف الإلكتروني إلى أرض العدو:

ذهب الفقهاء القدامى إلى منع المسافرة بالمصحف إلى أرض العدو التي تُعَدُّ دار حرب، وليس بين المسلمين وبين أهلها عهود ولا مواثيق تحمى بموجبها المقدسات والحرمات؛ لما جاء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث الذي رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو»[13].

قال ابن عبد البر: "ومعلوم من تنزيه القرآن وتعظيمه إبعاده عن الأقذار والنجاسات، وفي كونه عند أهل الكفر تعريض له لذلك، وإهانة له، وكلهم أنجاس لا يغتسلون من جنابة ولا يعافون ميتة"[14]، ولم يستثنوا من ذلك المنع غير الحالة التي يكون فيها جيش المسلمين لا تخشى عليه الهزيمة، والمصحف لا يمكنه أن يقع بين أيدي الكفرة، وبالتالي فإنه يسلم من نيل أيديهم ومن إهانتهم له.

وهذا الحكم مما يعتريه التغيير لتغير الظروف والأزمان؛ ذلك لأن حكم النهي معلل بعلة أن الكافر لا يراعي للمصحف حرمة، فيخشى من تدنيسه وإهانته، وهذا ما كان متمثلاً في العصور الماضية، وأما في هذه العصور المتأخرة فقد زالت هذه العلة على نحو كبير، فقد أصبحت فيه الأعراف الدولية تجرم الاعتداء على مقدسات الآخرين وإهانة دياناتهم، كما صار في كل بلد لا يدين بالإسلام مسلمون يحملون جنسيته وجالية مسلمة معتبرة في وزنها، ولها من الحقوق الدينية ما لم تجده في بلدها الأصلي، وهم مأمورون بقراءة القرآن وحفظ آياته.

وأيضاً ما نجده من تطور علمي لافت للنظر جعل المسافرة بالمصحف لم تعد الوسيلة الوحيدة التي تجعل أيدى الكفار تناله، بل صار المصحف متوافراً للتحميل على الشبكات العنكبوتية العالمية، وهو متاح للجميع، وإذا ما قصده الكافر تحصل عليه دون كلفة تذكر، وربما إذا قرأ بعضاً من آياته حصلت له الهداية؛ ولهذا كله فإن هذا الحكم لم يعد قائماً في هذا العصر الحديث. فقد جاء في شرح سنن ابن ماجه: "النهي ظاهر في الخوف من أن ينالوه فينتهكوا حرمته. فإن أُمنت العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهر عليهم فلا كراهية ولا منع عنه حينئذ لعدم العلة، هذا هو الصحيح" [15].

ويُلْحَقُ بهذا الحكم المتغير بتغير الظروف الحالية حكم المسافرة بالمصحف الإلكتروني مهما كان نوعه إلى أرض العدو التي لا تخلو من وجود مسلمين فيها من أبنائها ومن أبناء الجالية المسلمة، ويكون فيها المصحف في منأى عن التدنيس والإهانة مهما كان نوعه.

 

المسألة الثامنة: منع بيع المصحف الإلكتروني للكافر:

لقد اتفق الفقهاء على منع بيع المصحف الشريف للكافر، لأنه بامتلاكه للمصحف يحصل الإذلال للقرآن الكريم والاستهانة به، وفي ذلك امتهان لحرمة الإسلام والمسلمين [16] وإذا ما تم ذلك البيع في حالةٍ ما فإنه يقع باطلاً عند جمهور الفقهاء، ويصح عند الحنفية وبعض المالكية [17] غير أنه يجبر على انتزاع الملك عنه بإجباره على بيعه أو هبته أو غير ذلك.

وقال العراقي مبيناً علة النهي: "يستنبط منه -أي حديث النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض العدو- منع بيع المصحف من الكافر لوجود المعنى فيه، وهو تمكينه من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك" [18].

قال النووي: "ولا يجوز بيع المصحف ولا العبد المسلم للكافر؛ لأنه يعرض العبد للصغار، والمصحف للابتذال"[19].

والمصحف الإلكتروني إذا كان منفصلاً وخالصاً للقرآن فقط، فإنه يأخذ حكم المصحف الورقي في تحريم بيعه للكافر؛ إذ تظل علة النهي عن البيع قائمة، وهي المتمثلة في الاستهانة بالقرآن الكريم الذي يظهر مكتوباً حال تشغيله، وهي ما ذكرت في حديث النهي عن المسافرة بالقرآن الكريم إلى أرض العدو.

والعلة في هذا الحكم ظاهرة في مسألة إهانة القرآن الكريم المحمل على هذه الأجهزة، وهي مفسدة كبرى يقدم درؤها على جلب المصلحة الصغرى المتمثلة في سماع الكافر للقرآن من خلال هذه الأجهزة. وقد يقال: إنه يوجد من غير المسلمين من يشتري المصحف ولا يهينه، فالجواب أن مظنة إهانة المصحف واردة من كل غير مسلم، ولا يتصور أن يعظم الكافر المصحف ويحترمه كما يكون ذلك من المسلم. قال الأذرعي: "لم يفرقوا في بيع المصحف بين مَنْ يُرْجى إسلامه وغيره ".

ويحسن أن يباع للكافر ترجمة لمعاني القرآن بلغته، في صورة مسموعة أو مكتوبة أو مسموعة ومكتوبة معاً، على أن تكون تلك الترجمات خالية من نصوص القرآن الكريم، لأن هذا يعد وسيلةً من وسائل دعوته إلى الإسلام، ومساعداً له على فهم مبادئه وقيمه.

 

المسألة التاسعة: بيع المصحف الإلكتروني وشراؤه:

لقد اختلف الفقهاء قديماً في حكم بيع المصحف وشرائه، والسبب في ذلك أنَّ جَعْلَ المصحف محلاً للبيع والتجارة فيه، قد يؤدي إلى امتهانه والانتقاص من قدره، وكلام الله ينبغي أن ينزه عن ذلك.

فذهب الحنفية والمالكية والظاهرية وبعض الشافعية إلى جواز بيع المصحف وشرائه للرجل المسلم، واستدلوا بقوله تعالى: ’ {وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ} [البقرة من الآية:275]. وقوله أيضاً: ’{وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ‘} [الأنعام من الآية:119]، والشاهد أنه لو كان بيع المصحف محرماً لبيَّنه سبحانه وتعالى.

وما رُوي في بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين من أنهم لم يروا بأساً في ذلك، فلا تقوى بها حجة، ولا يثبت بها حكم؛ لأن تلك الآثار جاءت كلها من طرق ضعيفة واستدلوا أيضا بالمعقول فقالوا إن الذي يباع ليس كلام الله، وإنما هو القرطاس والمداد وما يجلد به المصحف وما عليه من حلية، وهو مما يقوم ثمنه، وهذا مما لا خلاف في بيعه.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى القول بكراهة بيع المصحف وشرائه، لما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره ذلك [20].

وذهب الإمام أحمد في أشهر رواية عنه إلى القول بتحريم بيع المصحف بحجة أن تعظيم المصحف واجب لاشتماله على كلام الله، وفي بيعه إهانة له وابتذال، فيكون ذلك حراماً [21].

والراجح في هذه المسألة ما عليه الجمهور من جواز بيع المصحف وشرائه بقصد تداوله ونشره بين الناس، بطريقة تحفظ للمصحف منزلته ورفعته، وثمنه إنما هو ثمن لتلك الوسائل التي تلزم كتابته وتجليده، غير أنه ينبغي ألا يكون الثمن باهظاً، وألا يُتلاعب بأسعاره.

وقياساً على هذا الحكم فإنه يجوز بيع المصحف الإلكتروني مع مراعاة ألا يكون باهظ الثمن، وألا يتلاعَبَ في تسعيره؛ لأن ما يباع هو ذلك الجهاز الإلكتروني المقوم بثمن معين وليس كلام الله عز وجل المضمن في ذاكرة الجهاز، ولأن هذا الأمر مما يساعد على نشر القرآن بين الناس، ويسهل تداوله. غير أن البائع إذا حمل المصحف من موقع إلكتروني محفوظ الحقوق، ثم قام بنسخه وبيعه فإن هذا البيع لا يجوز لما فيه من اعتداء على حقوق الملكية.

 

المسألة العاشرة: وقف المصحف الإلكتروني:

إن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الظاهر والزيدية ومحمد صاحب أبي حنيفة وجمهور الأحناف غير أبي حنيفة وأبي يوسف ذهبوا إلى جواز وقف المصحف الورقي للقراءة فيه؛ لأنه يعد من المعروف الذي ينتفع به، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف فرأوا عدم الجواز بحجة أنه لا حبس عن فرائض الله، ولا حبس إلا في سلاح أو كراع [22].

ويظهر الرجحان في قول الجمهور إذ لم يرد نص يفيد المنع أو يفيد التخصيص. ولأن وقف المصحف يعد من المعروف الذي ينتفع به. وإن الطبيعة الإلكترونية للمصحف الإلكتروني لم تغير من منفعته والاستفادة منه، بل ازداد بها انتشاراً، ومكن الكثير من استعمال المصحف والقراءة فيه، وبالتالي فإن حكم وقفه يكون الجواز اتباعاً للمصحف الورقي للاشتراك في النفع.

وإن وقف المصحف الإلكتروني يكون بتوفير نسخ منه في شكل أقراص بعد القيام ببرمجته وإعداده إلكترونياً، أو وقف البرمجيات الإلكترونية المستعملة لبرمجة المصحف، ويستخدمها من وقفت عليه، كما يكون أيضاً برفعه من طرف صاحبه الأصلي على بعض المواقع العنكبوتية الخاصة بالمصحف أو العامة التي توفر خدمة الرفع، ويقوم الموقوف عليه بتحميلها ونسخها والإفادة منها، على ألا يكون النسخ بغرض التجارة.

 

المسألة الحادية عشرة: نسخ المصحف الإلكتروني:

إن الطبيعة الإلكترونية للمصحف الإلكتروني ساعدت على نشره، وسهلت عملية نسخه، وأتاحت فرصة الحصول عليه للجميع، بأيسر جهد وأقل ثمن، سواء كان المصحف محملاً على أقراص CD، أو كان مرفوعاً على مواقع الشبكة العنكبوتية، ومن جهة أخرى نجد هذه الطبيعة الإلكترونية قد صعبت تحكم مالك المصحف الإلكتروني في حقه، ومنع الآخرين من استعماله إلا بإذنه. ونظراً لهذا وذاك تباينت آراء الفقهاء في حكم نسخ المصحف الإلكتروني، وتفصيل المسألة كما يلي:

أولاً: نسخ المصحف الإلكتروني بإذن صاحبه:
لم يمنع الفقهاء نسخ المصحف الإلكتروني بإذن صاحبه حيث يعتبر صاحب المصحف قد تنازل عن حقه لمن أذن له بالنسخ، ولا مانع من ذلك شرعاً. ويكون الإذن إما لفظاً من المالك للمصحف، أو معروفاً عرفاً كأن يكون المصحف على موقع إلكتروني دون التنبيه على أنه لا يحق لأحد تحميله أو نسخه، فإن هذا يحمل على ما تعارف عليه الناس من أن هذا يُعَدُّ في حكم الوقف العام الذي ينتفع به من أراد ذلك، ولا فرق في هذا بين التحميل والنسخ للاستعمال الشخصي أو الاستعمال التجاري إذا أذن المالك بذلك.

ثانياً: نسخ المصحف الإلكتروني بغير إذن صاحبه:
وأما نسخ المصحف الإلكتروني وتحميله بغير إذن صاحبه فإنه يظهر منعه إذا كان ذلك بقصد الاتجار به، وتحصيل الربح الذي يعز تحقيقه لصاحبه. وذلك لأن حق النسخ منفعة والمنفعة مال ولا يجوز أخذ مال أحد إلا بإذنه من خلال العقود الشرعية، ومن اعتدى عليه يكون خائناً لمال المسلمين ومخالفا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأموالهم» [23].

وأما إذا كان القصد هو التحميل والنسخ للاستعمال الشخصي فالظاهر جوازه إلا إذا صرح المالك للمصحف أنه لا يأذن لأي أحد أن يقوم بنسخه إلا بإذنه، وذلك لأنَّ ما جرى به العرف بأن المالك إذا ما أراد حماية إنتاجه الإلكتروني فإنه يبين ذلك، ويشير صراحة إلى أن حقوق النسخ والنشر محفوظة، وإن كان لم يُشِرْ ولم يبين الأمر فإنه لا مانع.

وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في حكم نسخ البرامج الإلكترونية ما نصه: "يجوز لمشتري البرنامج أن يستنسخ منها لاستعماله الشخصي" [24]. وهذا في حق من اشترى البرنامج، أما من لم يشتره فقد أجاب الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن هذه المسألة فقال: "يتبع فيها ما جرى به العرف، اللهم إلا شخصاً يريد أن ينسخها لنفسه ولم ينص الذي كتبها أولاً على منع النسخ الخاص والعام فأرجو ألا يكون به بأس [25].

 

المسألة الثانية عشرة: رهن المصحف الإلكتروني:

إن للفقهاء القدامى رأيين في حكم رهن المصحف، فذهب الجمهور من الأحناف والمالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة إلى جوازه لأنه مما يجوز بيعه واستيفاء الدين من ثمنه، وذهب الحنابلة في رواية إلى عدم جواز رهنه؛ لأن غاية الرهن استيفاء الدين عند استحقاقه من ثمنه، وذلك لا يحصل إلا ببيعه، وبيعه غير جائز [26].

وإن طبيعة المصحف الإلكترونية لا تمنع من بيع المصحف الإلكتروني على ما بينا سابقاً، غير أن الأمر لا يتصور إلا إذا كان المصحف الإلكتروني محملاً على قرص، أو كان جهازاً منفصلاً، حيث يمكن في هذه الحالة بيعه وبالتالي رهنه، كما يمكن أيضا قبضه، وأما إذا كان المصحف الإلكتروني مرفوعا على شبكة عنكبوتية فإنه لا يتصور قبضه، ولا يمكن أن يصح الرهن إلا مقبوضا، لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ[البقرة:283]. وإذا ما تصور إمكان قبضه وحيازة منافعه بشكل ما فإنه لا ضير حينئذ من جواز رهنه.

 

المسألة الثالثة عشرة: حكم إعارة المصحف الإلكتروني:

ذهب الفقهاء جميعاً إلى جواز إعارة ما فيه نفع وفائدة للمستعير [27]، ويدخل المصحف في ذلك لما فيه من فائدة القراءة فيه، وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب إعارة المصحف إذا احتاج إليه المستعير للقراءة فيه ولم يجد غيره [28]، والمصحف الإلكتروني لا تخرجه طبيعته الإلكترونية عن كونه يستفاد منه، ولذا فإن حكم إعارته الجواز إذا كان مصحفاً منفصلاً أو كان محملاً على قرص من الأقراص الإلكترونية المتداولة، وهذا يتصور فيه انتقال المصحف من يد المعير إلى يد المستعير، وهو خلاف للمصحف الذي يكون مرفوعاً على موقع إلكتروني فإن انتقاله من المعير إلى المستعير غير متصور، إذ هو متاح للجميع، ومتوفر في موقع عام، ولا يستطيع أحد أن يدعي حيازته، وحيازة منفعته، وإذا ما تصورت حيازته لمستفيد دون شيوعه بين كل المستعملين للشبكة العنكبوتية فلا مانع من القول بإعارته.

 

المسألة الرابعة عشرة: حكم إتلاف المصحف الإلكتروني:

إن المصحف الذي استغني عنه أو بلي ولم يعد صالحاً للقراءة فيه جاز إتلافه صيانة له وكرامة [29]، ورأى بعضهم أن ذلك يكون بحرقه، فقد روى ابن أبي داود عن ابن طاوس عن أبيه أنه لم يكن يرى بأساً أن تحرق الكتب، وقال: "إنما النار والماء خلقان من خلق الله تعالى" [30]. وقد استأنس هؤلاء لهذا بما فعله عثمان رضي الله عنه في المصاحف المخالفة لما أجمع عليه الصحابة، فقد روى البخاري عنه أنه: "حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في صحيفة أو مصحف أن يحرق" [31].

ورأى آخرون أن ذلك يكون بدفنه كما يدفن المسلم إذا مات إكراماً له. فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنما المصحف العتيق والذي تخرق وصار بحيث لا ينتفع به بالقراءة فيه فإنه يدفن في مكان يصان فيه، كما أن كرامة بدن المؤمن دفنه في موضع يصان فيه" [32].

ويمكن أيضاً أن يكون إتلاف المصحف بتمزيقه وفرمه بحيث لا يبقى بعد ذلك كلمات قرآنية مجتمعة الحروف، كما يمكن أن يكون ذلك بالمسح بالماء أو بأي مادة مزيلة للحبر.

غير أن إتلاف المصحف البالي يجب فيه المحافظة على حرمة القرآن، والحرص على عدم إبقاء شيء من آثاره، فلا يَصِحُّ أن يحرق المصحف في مكان نجس، أو يفرم بشكل تبقى معه بعض الكلمات القرآنية مقروءة، وإذا ما دفن فينبغي أن يكون في مكان طاهر، بعيد عن مواضع تداس بالأقدام، أو مواضع إهانة وازدراء.

وكذلك المصحف الإلكتروني إذا استغني عنه، أو كانت به أخطاء لا يحتمل بقاؤها فيه، فلا مانع من إتلافه، فإن كان محملاً على جهاز الحاسب أو الجوال تم إتلافه بحذف ملفه أو إزالة تثبيت برنامجه الذي يعمل بواسطته، وعندها لا يبقى شيء من المصحف الإلكتروني مخزناً على ذاكرة الجهاز. وأما إذا كان المصحف الإلكتروني جهازاً آلياً منفصلاً أو محملاً على قرص CD فإن إتلافه يكون بإعطابه، إذ لا يمكن إظهار ما خُزِّن فيه من برامج تظهر الكلمات القرآنية [33].

 

المسألة الخامسة عشرة: حكم الترميز وتلوين الأحكام في المصحف الإلكتروني

لقد كره بعض أئمة السلف قديما تغيير المصحف بالنقط والشكل والتعشير والتخميس وإضافة أسماء السور وعدد الآيات في كل سورة وغير ذلك مما يعتبر من الإضافات التحسينية للمصحف الذي كان غير منقوط ولا مشكول، وكانوا يقولون: "جَرِّدُوا القرآن ولا تخلطوا منه ما ليس منه". وجاء ذلك عن ابن عمر، وابن مسعود، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي [34]، وذهب آخرون إلى الترخيص في ذلك، واعتبروه نوراً له، ومن هؤلاء: ثابت بن معبد، والحسن البصري، والكسائي المقرئ [35]، وكان الإمام مالك يرى أن ذلك جائز في المصاحف الصغار ممنوع في المصاحف الأمهات [36].

ويظهر أن من منع من ذلك كان يخشى على المصحف من التغيير والتبديل الذي يمكن أن يلبس حروف القرآن على القارئ، وأن الذين أجازوا ذلك رأوا أنه مما يساعد على سلامة القراءة، وإبعاد اللحن عنها، ولذا نجد بعضهم يشترط أن تكون تلك الزيادات من نقط وشكل، بلون يخالف السواد الذي كتب به رسم المصحف لئلا يلتبس ما ليس من المصحف بما هو منه. قال الداني: "لا أستجيز النقط بالسواد لما فيه من تغيير لصورة الرسم" [37].

ومما ظهر وشاع في زماننا أن أغلب المصاحف الإلكترونية ألحقت بها بعض الزيادات التي لم تكن في نص المصحف الأول، وشمل ذلك تلوين بعض أحكام التلاوة، والترميز لدلالتها، وكل ذلك بقصد تسهيل عملية القراءة، والإرشاد إلى أحكام التلاوة، وحثًّا على تدبر معاني القرآن، وهذا الأمر يظهر جوازه لحسن القصد منه، ولحاجة بعض الناس إليه في زماننا هذا، وترخيص بعض علماء السلف في مثله، غير أنه يشترط فيه ما يلي:

أولاً:  عدم المساس بأصل رسم المصحف العثماني وضبطه.
ثانياً: أن تكون هذه الزيادات من الترميز وغيرها بألوان تخالف لون الرسم الأصلي حتى لا يظن أحدٌ أنها من الرسم.

ثالثا:  ألا يكون ذلك الترميز والتلوين موهماً وموقعاً في الخطأ بالنسبة لبعض المستعملين للمصحف، فلا بد أن تكون الرموز والألوان ظاهرة وواضحة ودالة على ما وضعت له من الأحكام أو المعاني دلالة مباشرة. ولقد أقرت لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر فكرة الترميز اللوني وعَدَّتْها فكرة مبتكرة في المصاحف [38].

 

المسألة السادسة عشرة: حكم جمع القراءات في مصحف إلكتروني واحد:

لقد منع الإمام الداني مسألة جمع قراءات شتى في مصحف ورقي واحد إذا كان ذلك يؤدي إلى التخليط بين القراءات فقال: "ولا أستجيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد، بألوان مختلفة لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم" [39].

والأمر نفسه بدا في بعض المصاحف الإلكترونية اليوم، ويعتمد الحكم فيها على مسألة فصل القراءات في المصحف الإلكتروني، فإن كانت القراءات مفصولة عن بعضها، بحيث تكون كل قراءة في ملف مستقل، ولا تظهر القراءات مجتمعة في صفحة واحدة بشكل يخشى فيه من التباس الروايات على القارئ، فلا مانع من هذا، لكن إذا ما كانت القراءات غير منفصلة بعضها عن بعض، وكانت تعرض في الصفحة الإلكترونية نفسها على نحوٍ يؤدي إلى الخلط بين القراءات، والتشويش على القارئ، وليس من ورائه فائدة ترجى فيكون منعه أولى حفاظاً على سلامة المصحف من التغيير المفضي إلى الخلط فيه.
 

الخـاتمــة:

في ختام هذا البحث نسجل جملة النتائج التالية:

أولاً: لا يُعَدُّ المصحف الإلكتروني مصحفاً إلا إذا كان في وضع التشغيل وكان خالصاً للكلمات القرآنية مجرداً عن الملحقات كالتفاسير والترجمات.

ثانياً: ومما يتعلق بالمصحف الإلكتروني من أحكام فقهية ما يلي:
- يجوز للجنب وللكافر مس المصحف الإلكتروني عموماً؛ إذ لا يتصور المس الحقيقي للبرنامج الإلكتروني.
- تجوز القراءة في المصحف الإلكتروني في الصلاة النافلة، وتكره في الفريضة، إذا كان استعماله يتم بعمل يسير.
- لا يجوز مس المصحف الإلكتروني بنجاسة أو وضعه عليها أو تلطيخه بها، أو الدخول به إلى الخلاء حال تشغيله، لغير حاجة أو ضرورة.

- لا يجوز استعمال آيات المصحف الإلكتروني وتلاواته رنات للجوال.
- لا يجوز رفع المصحف الإلكتروني على المواقع المشبوهة التي لا يراعى فيها للمصحف حرمته الخاصة.
- لا مانع من تمكين الكافر من مس المصحف الإلكتروني عموما، لانتفاء المس الحقيقي.
- لا يجوز بيع المصحف الإلكتروني لكافر، وإنما يباع له ترجمة للقرآن بلغته.
- يجوز بيع المصحف الإلكتروني وشراؤه؛ لأنه جهاز مقوم بثمن.

- يجوز وقف المصحف الإلكتروني، لأنه مما يستفاد وينتفع به.
- لا يجوز نسخ المصحف الإلكتروني إلا بإذن صاحبه، مهما كان الغرض من ذلك.
- يجوز رهن المصحف الإلكتروني؛ لأنه مما يجوز بيعه.
 تندب إعارة المصحف الإلكتروني لمن احتاج إليه؛ لأنه مما يحقق نفعا للمستعير.
- يجوز إتلاف المصحف الإلكتروني الذي استغني عنه صيانة له وكرامة.
-  يجوز الترميز والتلوين في المصحف الإلكتروني، لحاجة بعض الناس إليهما في زماننا هذا.

يجوز جمع القراءات في المصحف الإلكتروني إذا كانت على نحوٍ لا يؤدي إلى التباس على القارئ.
تجوز المسافرة بالمصحف الإلكتروني إلى أرض غير المسلمين التي لا تخلو من وجود مسلمين من أبنائها، أو كان أهلها أصحاب عهود مع المسلمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

----------------------------

[1] (ينظر المجموع شرح المهذب [2/197]).
[2] (رواه الترمذي: 4/229، وصححه ابن حجر في تلخيص الحبير[1/108]).
[3] (الإنصاف [1/95]).
[4] (مغني المحتاج [1/156]).
[5] (ينظر الزواجر عن اقتراف الكبائر[1/48]).
[6] (رواه مسلم في كتاب الطهارة باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذ حصلت في المسجد).
 

[7] (يراجع: المدخل لابن الحاج [2/302]، وكشف القناع عن متن الإقناع [1/434]).
[8] (المدخل [2/302]).
[9] (غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب [1/397]).
[10] (يراجع: المجموع شرح المهذب [2/77]).
[11] (طرح التثريب [7/220]).
[12] (المنتقى شرح الموطأ [3/166]).
[13] (رواه مسلم في كتاب الإمارة باب: النهي عن أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف الوقوع في أيديهم.)
 

[14] (التمهيد [15/255]).
[15] (شرح سنن ابن ماجه [1/207]).
[16] (ينظر: المغني [4/178]، كشف القناع عن متن الإقناع: [13/135]، ودقائق أولي النهى: [2/12]).
[17] (ينظر: منح الجليل شرح مختصر خليل [4/444]).
[18] (طرح التثريب [7/216]).
[19] (المجموع شرح المهذب [9/434]).
[20] (رواه ابن أبي داود في المصاحف بالرقم [541]، وقال الدكتور واعظ محقق الكتاب في الأول: حسن لغيره، ينظر: حاشية كتاب المصاحف، [2/572]).

[21] (ينظر تفصيل خلاف المذاهب في المسألة في المغني [4/178]، والمجموع [9/303]، والفروع لابن مفلح: [4/16]، والإنصاف [4/279]، والتبيان [1/101]).
[22] (ينظر: المحلى لابن حزم [9/175]، والفروع [4/585]، وفتح القدير[6/217]، ورد المحتار على الدر المختار: 4/366، وشرح السير الكبير للسرخسي، [5/2104]).
[23] (رواه الترمذي في كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وقال: حديث حسن [5/17]).
 

[24] (القرار ذوالرقم 43، مجمع الفقه الإسلامي الدولي في مؤتمره الخامس بالكويت،من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ الموافق 10 إلى 15 (كانون أول) ديسمبر 1988م).
 

[25] (ينظر الموقع: www.al3ez.net/vb...09/06/2006).
[26] (ينظر المغني [4/226]، والمبسوط للسرخسي [21/66]، والإنصاف [5/147]).
[27] (ينظر: المجموع [14/200]، والمغني [7/340]، وبداية المجتهد [2/235]).
[28] (ينظر: الإنصاف [6/103]، ودقائق أولي النهى [2/290]، وتحفة المحتاج [5/411]).
[29] (ينظر تفصيل ذلك في: تحفة المحتاج [1/154]، و مطالب أولي النهى [1/160]).
[30] (رواه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد صحيح، المصاحف [2/665]).
[31] (رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن برقم [4702]).
[32] (مجموع الفتاوى [5/75]).
 

[33] (منقول عن المهندس عبد الهادي بن زيطة شفويا بعد سؤاله عن المسألة).
[34] (ينظر المحكم في نقط المصحف، ص [10-11]).
[35] (المصدر نفسه، ص[12-13]).
[36] (المصدر نفسه، ص [11]).
[37] (الإتقان في علوم القرآن:[1/479]).
[38] (يراجع الموقع الإلكتروني: www.dar-al-maarifah.com/or/azhar.htm).
[39] (الإتقان: 1/479]). 

 

رابح بن أحمد دفرور
 

المصدر: كتاب: المصحف الإلكتروني وأحكامه الفقهية المستجدة