نافذة على الأموات

منذ 2014-11-11

لا يملك المثقف أن ينزوي عن الجاهل كما كان يفعل في الدنيا، ولا أصحاب المناصب عن العامة، فهنا ينام الحقير إلى جنب الوزير، والأمير بظهر الفقير، والصالح مع المنافق والفاسق جنبًا إلى جنب! كلهم فيما أراه سواء لا فرق البتة، قد سمعت هذا كثيرًا وقرأته كثيرًا، ولكن ليس الخبر كالمعاينة، وليس من رأى المقابر أكثر من مرة كمن يراها لأول مرة.

لم أنزعج أبدًا حين فتحت نافذة الغرفة لأجدها مطلة على مقبرة قريبة، لا تبعد عنا إلا بعرض الشارع الذي يفصل بيننا وبينها، كان الزحام شديدًا حين اضطررنا للسكن في أي بقعة شرط أن تكون داخل حدود الحرم، وحين رأيتها لأول وهلة ترددت في هذه المساحة الواسعة المسورة والخالية عدا من خطوط بارزة على أرضها.. ترى ماذا عساها تكون؟!

احتجت بضع لحظات لأجزم بأنها مقبرة..
الشيء الذي لا يمكنني أن أراه إلا في الصور! والمكان الذي لا يسمح لي بدخوله إلا ميتة
وأقولها صراحة.. وأنا لا أدري هل كان يحق لي أن أطيل النظر فيها أو لا؟! إلا أني وجدتني مندفعة لتأملها والنظر فيها معظم الوقت، حيث انتابني شعور مهيب لا أملك وصفه، إنها فرصتي التي ربما لا تتكرر أن أتأمل في المكان الذي سأسكن في مثله ولا بد..

ورغم ما يقال عن المقابر ووحشتها، إلا أني كنت أراها من الأعلى مشرقة نظيفة مرتبة، شدني ذلك الترتيب والتنظيم في صف القبور وتسويتها، إذ لا يميزها إلا ارتفاع بسيط وبعض ممرات رئيسية بينها، كانت القبور في عيني كأسنان المشط لا فرق، فالصورة واحدة ولكن حتمًا حقائق ما في الداخل مختلفة، ففيها من كل أصناف الناس، ولكنك لا تدري من في حياة البرزخ جارك.

لا يملك المثقف أن ينزوي عن الجاهل كما كان يفعل في الدنيا، ولا أصحاب المناصب عن العامة، فهنا ينام الحقير إلى جنب الوزير، والأمير بظهر الفقير، والصالح مع المنافق والفاسق جنبًا إلى جنب! كلهم فيما أراه سواء لا فرق البتة، قد سمعت هذا كثيرًا وقرأته كثيرًا، ولكن ليس الخبر كالمعاينة، وليس من رأى المقابر أكثر من مرة كمن يراها لأول مرة.

وخارج أسوار المقبرة وعالمها الساكن عالم يضج بالحركة والحياة، الناس بين ساع ومهرول وبين ماش بسكينة ووقار، كل له شأن، والنهاية بينهم وبينها بضعة أمتار ولكن..!

رغم هيبة المنظر، إلا أنه بدا مألوفًا معتادًا للناس أن يكون خلف هذا الجدار أناس مثلهم قد انتهت صلاحيتهم للحياة، مسورون تحت التراب، لأنهم لو تركوا في العراء يتعفنون ويفسدون على الأحياء حياتهم.

كنا في الغالب نسكن إلى جوار الحرم لنطل في كل لحظة على صحن الحرم وساحاته، لنرى أناسًا يعملون فنزدري أعمالنا، يتعبون فنحتقر تعبنا، يتسابقون فنحاول أن نتأسى بهم وأن نكون مثلهم، أما هذه المرة فنطل على أناس لا يملكون تسبيحة ولا تحميدة ولا حسنة واحدة، إنهم يقولون لي بلسان حالهم لا تتوقفي ولا تفتري، افعلي ما لا نستطيع فعله، واعملي قبل أن لا تستطيعي أن تعملي.

كان الدافع هذه المرة مختلف تمامًا.
لا أدري هل نفعتهم وأنا أبتهل لهم كلما رأيتهم أن يغفر الله لهم ويرحمهم، بقدر ما نفعتني رؤية قبورهم الساكنة أمامي.
صورة المقابر الحية هذه المرة أحيت في قلبي الكثير.. نافذة على الأموات!

رأيت الحياة قصة قصيرة للغاية، بدت في عيني كبابان متقابلان ندخل من هذا لنخرج من ذاك، مجردين كما دخلنا ليكون كل ما أعطيناه في الدنيا من معطيات ومكاسب وممتلكات إنما هي عارية، وأدوات ليرى ربنا كيف نستعملها فيما خلقنا له من عبادة الله، ويوشك أن نتركها ونرحل.

فما أعطاك الله لأنك أفضل، ولا منعك لأنك أقل، ليتك تفهم! من أُعطي ومن مُنع كلهم سواء، والعبرة كيف أنت مع العطاء والمنع؟ وكيف يمكنك أن تحقق أفضل قرب ممكن في حقك ووفق معطياتك؟

لا تتعلق وتتمسك بما في يدك إنما هو عارية، لا تنظر لما في يد غيرك، لا تزدري نعمتك، لا تحتقر غيرك ولا تغتر بمن حولك، وانشغل بنفسك وركز همتك وجد واجتهد لتحقق الغاية التي خلقت من أجلها، الوقت قصير، وعما قريب نخرج من الباب مكرهين، ونتوسد التراب ونصطف إلى جنب الأموات بكل أنواعهم وطبقاتهم، ومستوياتهم وثقافاتهم، لا يميزنا عنهم إلا شيء واحد (ما عملناه وفق معطياتنا).

حينها سندرك أن حقائق الأعمال عند الله، ومثاقيلها وموازينها ليست كما تبدو لنا هنا، وأن صدقة الفقير ليست كصدقة الغني، وسعي الضعيف ليس كسعي القوي، ومواقع الأعمال عند الله لها قرع مختلف تمامًا عما نسمع هنا.

اعمل ولا تلتفت، هناك فقط ستسمع النتيجة وتعيشها، حلوة كانت أو مرة
قاتل الله الجهل والغفلة وكفى بالموت واعظًا.


إلهام الملا

المصدر: مركز المشير للاستشارات التعليمية والتربوية