القراءة التدبرية للقرآن، و تزكية الإنسان.

منذ 2014-11-12

ثبت أن عمر الفاروق رضي الله عنه (تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة)، وذلك ليس عجزًا منه، وإنما هو الحرص على التدبر والعمل، وهذا ما أكده ابن عمر فقال: "كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به".

لقد خلق الله تعالى الإنسان في قوام عجيب يباين سائر المخلوقات، إذ ركبه من شق طيني أرضي، ونفخ روحاني سماوي، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص من الآيتين:71-72]، فهو على هذا مخلوق بين منزلتين؛ حيوانية وملائكية، لذلك فهو مطالب بالحفاظ الدائم على هذا التوازن، من خلال تلبية الحاجات الشهوانية المركوزة فيه، لكن من دون إغفال عن توفير الحاجات الروحانية أيضًا.

ولا جُرم أن الإنسان قد حاد على مر التاريخ -ولا يزال- عن منهج التوازن إلى تغليب العناية بالأشباح وخدمتها، والغفلة عن العناية بالأرواح وتزكيتها، وهذا ما نتج عنه تشوه في تركيبة الإنسان، فصار يعاني إعاقة روحية على الرغم من استوائه الجثماني.

ولأجل معالجة هذه الإعاقة (الطارئة) هدانا الشرع الحنيف إلى عدد من السبل، لعل من أبرزها: تلاوة كتاب الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: يا رسول الله، فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن» (مصنف عبدالرزاق، شعب الإيمان للبيهقي)، أي أن الإعراض عن الإقبال على كتاب الله تعالى يؤدي إلى أن تصدأ القلوب، وهذا ما يورث بالتبع انسدادها وانغلاقها.

لكن القراءة المقصودة هنا ليست أية قراءة، وإنما هي القراءة التدبرية الواعية، التي تتجاوز الحلاقيم نافذة إلى القلوب، ولذلك، بَيَّنَ سبحانه أن عماية القلوب وانسدادها نتيجة مباشرة لانعدام التدبر لآي الكتاب المبين، قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فالآية كاشفة عن العلاقة السببية بين عدمية التدبر وعماية القلوب؛ التي هي أشد وأنكى من عماية الأبصار، {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، ثم إن الآية تشير إشارة واضحة إلى أن التدبر لكتاب الله تعالى، هو الذي يفتح القلوب ويكسر أقفالها، التي تحول دون تذوق جمال القرآن والإحساس بجلاله، وأنه هو البلسم الشافي الذي يزيل أدرانها، ويطهرها من الرذائل والبذاء، ويهديها إلى سواء الصراط، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]

إذن، فهذه القراءة التدبرية لكتاب الله تعالى تَقِي الإنسان من أن يُخلد إلى الأرض ويَتبع هواه، وترتقي به، وتُزكيه وتُعلمه من العلم والحكمة ما لم يكن يعلم، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:151]، وقال أيضًا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].

فهذا الترتيب البديع (تلاوة، تزكية، تعلم) ليس عبثًا، وإنما هو مقصود لذاته، أي أن الآيات تُلمح بوضوح إلى أن من تبعات التلاوة التدبرية: حصول التزكية، واستجلاب العلم والحكمة. فتحصل من خلال ما سبق كله أن الرقي الإنساني لا يتحقق إلا بالقراءة المتفحصة المتدبرة للقرآن الكريم، لأنها قراءة تتجاوز الحروف إلى المعاني، وتتجاوز الحناجر إلى القلوب، فتثمر فكرًا وحكمةً وسلوكًا، وانقيادًا مطلقًا لأحكام القرآن ومقرراته، وهذا ما بينه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيقول: "والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله" (1)، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: "والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل" (2).

ولعل هذا هو ما يفسر بطء بعض الصحابة في حفظ حروف القرآن الكريم، قد ثبت أن عمر الفاروق رضي الله عنه (تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة) (3)، وذلك ليس عجزًا منه، وإنما هو الحرص على التدبر والعمل، وهذا ما أكده ابن عمر فقال: "كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به" (4).

وفي هذا المعنى يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إنَّا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به" (5)، وثبت عنه رضي الله عنه أيضًا أنه قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن" (6).

ومن الأمثلة الشاهدة على أثر تدبر القرآن في تزكية النفس، وإقبالها على فعل المأمور، ما أُثر عن الصحابة رضي الله عنهم من سرعة الاستجابة إلى نداء الله تعالى حينما قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، إلى أن قال سبحانه: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة:91]، فقال الصحابة: "انتهينا يا ربنا"، ثم أهريق ما كان بأيديهم من خمر ومُسكر (7)، وما فعلوا ذلك إلا لأنهم وعوا معنى الآية، وتدبروها وفقهوا أحكامها.

ومن نماذج الصالحين من بعدهم في الباب ما روي في سبب توبة الفضيل ابن عياض -وكان شاطرًا يقطع الطريق- فقد عشق جارية، فصار إلى بيتها في سكون الليل، فبينما هو يرتقي الجدار إليها إذ سمع رجلًا قائمًا من الليل يتهجد ويقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون} [الحديد:16]، فلما سمعها تجاوزت آذانه وبلغت جنانه، ففقه مبناها، وأجرى معناها آنا غير مسوف، فقال: "بلى يا رب قد آن، بلى يا رب قد آن، بلى يا رب قد آن". ثم قال: "اللهم إني تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام" (8).

بناءً على ما سبق أقول:
إن القراءة التدبرية الواعية للقرآن الكريم تثمر اهتداء ورحمة وتزكية وشفاء، أي أنها تزكو بالقلوب في مقامات العبودية، وترقى بها إلى مدارج السالكين لرب العالمين، وفي هذا الصدد، يقول ابن القيم رحمه الله: "فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تُعَرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتُعَرِفه طريق أهل الجنة وأهل النار، وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه، تُريه الحق حقًا والباطل باطلًا، وتُعطيه فرقانًا ونورًا يفرق به بين الهُدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحًا وبهجة وسرورًا، فيصير في شأن والناس في شأن آخر" (9).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- تفسير ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة:121]، 1/403.
2- نفسه، 7/64.
3- شعب الإيمان، ح: 1957، 2/331.
4- الجامع لأحكام القرآن، 1/40.
5- الجامع لأحكام القرآن، 1/40.
6- جامع البيان في تفسير آي القرآن، 1/80.
7- الجامع لأحكام القرآن، 15/82.
8- الجامع لأحكام القرآن، 17/251.
9- مدارج السالكين، 1/485، 486.

 

 د. الميلود كعواس

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي