الأحكام السلطانية للماوردي - (103) حقوق الآدميين (9)
ولو انتشرت أغصان الشجرة إلى دار جاره كان للجار أن يستعدي المحتسب حتى يعديه على صاحب الشجرة؛ ليأخذه بإزالة ما انتشر من أغصانها في داره ولا تأديب عليه؛ لأنَّ انتشارها ليس من فعله.
الباب العشرون: في أحكام الحسبة
حقوق الآدميين (9)
فصل:
وأما ما ينكر من حقوق الآدميين المحصنة، فمثل أن يتعدَّى رجل في حد لجاره، أو في حريم لداره، أو في وضع أجذاع على جداره، فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجاز؛ لأنه يخصه، فينصح منه العفو عنه والمطالبة به، فإن خاصمه فيه كان للمحتسب النظر فيه إن لم يكن بينهما تنازع وتناكل، وأخذ المتعدي بإزالة تعديه، وكان له تأيبه عليه بحسب شواهد الحال. فإن تنازعا كان الحاكم بالنظر فيه أحق، ولو أن الجار أقر جاره على تعديه وعفا عن مطالبته بهدم ما تعدى فيه، ثم عاد مطالبًا بعد ذلك كان له ذلك، وأخذ المتعدي بعد العفو عند بهدم ما بناه؛ ولو كان قد ابتدأ البنا ووضع الأجذاع بإذن الجار، ثم رجع في إذنه لم يؤخذ الثاني بهدمه.
ولو انتشرت أغصان الشجرة إلى دار جاره كان للجار أن يستعدي المحتسب حتى يعديه على صاحب الشجرة؛ ليأخذه بإزالة ما انتشر من أغصانها في داره ولا تأديب عليه؛ لأنَّ انتشارها ليس من فعله، ولو انتشرت عروق الشجرة تحت الأرض حتى دخلت في قرار أرض الجار لم يؤخذ بقلعها، ولم يمنع الجار من التصرف في قرار أرضه، وإن قطعها نصب الملك تنورًا في داره، فتأذى الجار بدخانه لم يعترض عليه ولم يمنع منه، وكذلك لو نصب في داره رحى أو وضع فيها حدادين أو قصابين لم يمنع؛ لأن للناس التصرف في أملاكهم بما أحبوا، وما يجد الناس من مثل هذا بدًّا، وإذا تعدَّى مستأجر على أجير في نقصان أجرة أو استزادة عمل كفه عن تعديه، وكان الإنكار عليه معتبرًا بشواهد حاله، ولو قصر الأجير في حق المستأجر فنقصه من العمل، أو استزاده في الأجرة منعه وأنكره عليه إذا تخاصما إليه، فإن اختلفا وتناكرا كان الحاكم بالنظر بينهما أحق.
ومما يؤخذ ولادة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف: منهم من يراعي عمله في الوفور والقصير؛ ومنهم من يراعي في حالة الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعي عمله في الجودة والرداءة.
فأما من يراعي في عمله في الوفور والتقصير فكالطبيب والمعلمين؛ لأن الطبيب إقدامًا على النفوس يفضي التقصير فيه إلى تلف أو سقم، والمعلمين من الطرائق التي ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنها بعد الكبير عسيرًا، فيقر منهم من توفر عمله وحسنت طريقته، ويمنع من قصر وأساء من التصدي لما يفسد به النفوس وتخبت به الآداب.
وأما من يراعي في الأمانة والخيانة فمثل الصاغة والحاكة والقصارين والصباغين؛ لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعي أهل الثقة والأمانة منهم فيقرهم، ويبعد من ظهرت خيانته ويشهر أمره؛ لئلَّا يغتر به من لا يعرفه، وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بالنظر في أحوال هؤلاء من ولاية الحسبة وهو الأشبة؛ لأنَّ الخيانة تابعة للسرقة.
وأما من يراعي عمله في الجودة والرداءة فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة، ولهم أن ينكروا عليهم في العموم فساد العمل ورداءته، وإن لم يكن فيه مستعد. وأما في عمل مخصوص اعتاد الصانع فيه الفساد والتدليس. فإذا استعداه الخصم قابل عليه بالإنكار والزجر، فإن تعلق بذلك غرم روعي حال الغرم، فإن افتقر إلى تقرير أو تقويم لمن يمكن للمحتسب أن ينظر فيه؛ لافتقاره إلى اجتهاد حكمي، وكان القاضي بالنظر فيه أحق، وإن لم يفتقر إلى تقدير ولا تقويم، واستحق فيه المثل الذي لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتأديب على فعله؛ لأنه أخذ بالتناصف وزجر عن التعدي.
ولا يجوز أن يسعّر على الناس الأقوات ولا غيرها في رخص ولا غلاء، وأجازه مالك في الأقوات مع الغلاء.
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: