اغتيال الحياء
الحياء درجات، وإدراك الغاية منه لا يتأتى لكافة الناس، نحن نطلب فقط أصل الحياء، الذي يحفظ حياتنا من أن تغشاها الرذائل.
طبيعة الحياة التي بِتْنَا ندُوك فيها، جعلتنا محاصرين بكل ما له علاقة بالتبذل، والتفسخ، وفقر العفة، لا بد -وهذا هو منطق العقل- أن تُفرز مقاومه ذاتيه بين ذلك القادم (الصائل) الغريب، وبين قيمة الحياء النبيلة، فإذا بالناس إثر تداعيات تلك المطاولات والمنافحات، على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: لَفَظ ذلك التَّبَذُّلَ، والتفسخ، والقِحَة، فاستقام على صراطه، وأقام من تحت يده من النساء والذرية، فهم ينظرون إليه دومًا بعين السائل المسترشد، وهو يحاورهم بدوره بلسان الناصح الموجه.
الضرب الثاني: ما زال في أتُّون المطارحة (المعركة)، يتقدم حينًا، ويتأخر حينًا، وأحيانًا كثيرة يودُّ لو وصل إلى مرحلة توافقية بين النقيضين، فلن نتحدث عن هذا حتى يفرغ من مكابدته، إما غانمًا، وإما خاسرًا كاسفًا.
الضرب الثالث: هو مَن عليه مدار حديثنا، ذات يوم نزغته جاهليته، فاشتمل بردته، وحمل على عاتقه بقايا حيائه، ونفذ على رسله، حتى أَطَلَّ على وادٍ سحيق، وهناك رمى بالحمل الذي أثقله، اشتعل طربًا وهو يرى من نفسه خفة لم يعهدها من قبل، سينطلق كما يريد مفكوك القيد، منحلَّ الضوابط، عانى كثيرًا من قيد الحياء، كلما رغبت نفسه الضئيلة في إطلاق العبارات المستقبَحة في المجالس واللقاءات، خنقوه بحبل الحياء، كان هذا زمن الصبا والنزق والطيش.
وعندما اشتعل رأسه شيبًا -ودونما قصد منه- كان يمارس دور الضد مع زوجته وبناته الجامعيات، يقول لهن على استحياء، وبنبرة مكتومة: "هذا عيب، نحن نستحيي من الناس".
حتى التفَّتْ حزمة من الدواعي الخبيثة في رأسه القابلِ لكل شيء، فقرر عن اقتدار وصلافة أن زمن الحياء ولَّى واندثر من حياته الستينية، ولا يريد لبناته وأحفاده أن يصطدموا بذلك الهاجس الذي عكر عليه كل أهوائه.
ذات مساء، أبصره الجميع خارجًا من مسكنه بوجه المحارب هذه المرة، سينتصر لنفسه كما زعم، كان داخلاً لذلك السوق (المرتع)، ومحارمُه مِن خلفه يقفون أثره في حالة من التبرج، والسفور، والروائح النسائية التي تستدعي مكامن الشباب، لم يترك سوقًا إلا وولغ فيه، وكأنه في حملة انتخابية يرفع لها الرايات: "ساهموا معنا في سفك الحياء"!
الرجل الستيني أجهده السير، فانعطف إلى زاوية قصية؛ ليأخذ قسطًا من الراحة وحده، بينما واصلت النسوة المسيرة، وعيناه تلمعان، وشعوره بالزهو لا ينقطع، وهو يشاهدهن يخالطن الرجال، ويتضاحكن معهم، لم يجانب الصوابُ عمرَ الفاروق عندما قال: "من ذهب حياؤه، مات قلبه"، مات قلب صاحبنا، وأجدبت منه نبضات الحياء.
نحن لن نطلب من هذا وأضرابه حياءً كحياء عائشة -رضي الله عنها- وهي تستحيي من خلع ملابسها بعد أن دُفن الفاروق عمر في حجرتها، فهذا هو الحياء من الأموات، ونحن لا نطلب إلا الحياء من الأحياء.
ثانيًا: لن نطلب من هذا وأضرابه حياء الأموات، كما ذكر ابن خلكان في "وفيَاته"، أن نساء الخوارج لم يمنعهن من مشاركة رجالهن في قتال العدو إلا الحياء، قالت إحداهن: "أخشى أنهم بعد قتلي يصلبونني، وتبدو عورتي للناس"، فهذا هو حياء الأموات، ونحن نريد حياء الأحياء.
الحياء درجات، وإدراك الغاية منه لا يتأتى لكافة الناس، نحن نطلب فقط أصل الحياء، الذي يحفظ حياتنا من أن تغشاها الرذائل، وإلا لما امتاز عثمان - رضي الله عنه - عمَّن سواه في هذه الفضيلة.
- التصنيف:
- المصدر: