قضايا الحاكمية تأصيل وتوثيق - (44) صاعقةٌ مُزلزِلَة؛ للجَامِيَّة والمَدَاخِلة، ومُقدِّسي الحُكام
أنَّ كلَّ مَن وَلِي ولايةَ مصرٍ أو قطر، بأي طريقةٍ كانت؛ ولو تسلطًا وغصبًا، وعدوانًا ورغمًا؛ فإنه بذلك يصير وليًّا وحاكمًا، وأميرًا وسيِّدًا
صاعقةٌ مُزلزِلَة؛ للجَامِيَّة والمَدَاخِلة، ومُقدِّسي الحُكام؛ مِنَ السَّفَه والعَتَه، والدَّجَل والخَطَل:
ما دأبَ عليه غُلاةُ الجَرح والتجريح؛ فاقدو الفهم الصحيح، والعقل الصريح؛ الجاميةُ الجُهلاء، والمداخلةُ الحُدثاء، فشبَّ عليه صغيرُهم، وهَرُم عليه كبيرُهم؛ وهو أصلُهم الذي أصَّلوه، وبغير علمٍ أحدثُوه، وفي كلِّ ولايةٍ طردُوه؛ ألا وهو:
أنَّ كلَّ مَن وَلِي ولايةَ مِصْرٍ، أو قُطْرٍ، بأي طريقةٍ كانت؛ ولو تسلطًا وغصبًا، وعدوانًا ورغمًا؛ فإنه بذلك يصير وليًّا وحاكمًا، وأميرًا وسيِّدًا،حتى ولو لم يُقِم دينًا ولا دنيا، ولا جهادًا وَحَدًّا، بل -وبالغيظة فيَّ وفيك- هو أمير المؤمنين، والصادقُ الوعْد الأمين!
ومَن يَجرؤ على مُخالفتِه، أو زَجْرِه ونَهيه، أو الإنكار على فسادِه وضَلاله، ولو كان إنكارًا بكلمةٍ، أو حتى بقلَم، أو حتى في نفسه وقلبه؛ فهو حَروريٌّ خبيث، وخارجيٌّ مارق، ومبتدعٌ ضال!
ومن ها هُنا؛ ارتأوا مبارك وليًّا، وسِيسِيَّه متغلبًا، والقذافي حاكمًا، وبشار متأمِّرًا، ولأن قليل الكلام يُغني عن كثيره، وقصيره يُغني عن طويله؛ سأكتفي فقط لإثبات بطلان مذهب هؤلاء، ومخالفته سبيلَ أهل السنة؛ بذكر مذهب أحد الأئمة الفحول، في هذه المسألة، وهو ممن يُعوِّل عليه هؤلاء في النقل والاستدلال؛ إنه الإمام (الشوكاني) رحمه الله.
ومذهبه رحمه الله في أئمة الجور؛ الصبرُ على جَورهم، وعدم الخروج على حُكمهم، ولا نزع يدٍ من سَمعهم وطَوعهم، لما يترتب على ذلك من مفاسد ومضار.
لكنه رحمه الله؛ قيَّد هذه الطاعة لأمراء الجور، وعدم الخروج عليهم؛ بقيودٍ وأغلال، كالجبال الثقال؛ فيقول في (فتح القدير): "ومن جملة ما يَأمرون به -الولاة -؛ الجهاد، وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم، وإقامة الحدود على من وجبت عليه، ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه، من وجوب طاعتهم؛ بالقيود المذكورة؛ لتواتر الأدلة الواردة به".
فقيَّد رحمه الله طاعتهم؛ بما رأيت من قيام الجهاد، وإقامة الحدود، إلخ.
بل أنه رحمه الله؛ قد ذكر أبلغ قَيدٍ وأحكمه؛ في وصف الحاكم الذي له حق السمع والطاعة، ومتى تُنْتَفَي عنه هذه الطاعة؛ فقال في (فتح القدير): "وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء:59]، وأولي الأمر: هم الأئمة، والسلاطين، والقُضاة، وكلُّ مَن كانت له ولايةٌ شرعية، لا ولاية طاغوتية".
والولاية الطاغوتية؛ هي تيك التي يكون حُكمها خارجًا عن شريعة الإسلام، وتستبدل بها قوانين البشر الوضعية، وتفتقر إلى شروط الولاية الأخرى.
فكما ترى بوضوح ولأول وهلة؛ أنه ليس كلُّ من تملَّك رقاب الناس، واستولى على حُكمهم؛ يكون له سمعٌ مُطلق، وطاعةٌ عمياء، فهذا خطأٌ وغلَط، وخلْطٌ وشطَط، فإنما يُسمع ويُطاع؛ لوليّ الأمر الصالح؛ القائم بأمر الله ودينه وشرعه، وليس كل عربيد سكير؛ مُتسلط على حكم البلاد، ورقاب العباد، لا يُقيم دنيا، ولا يَنصر دينًا، ولا يُحكِّم شريعة.
فهؤلاء على الحقيقة طواغيت فجرة، وولايتهم ساقطةٌ واهية، لأنها ولايةٌ طاغوتية، تحكم بغير شرع الله، ودينه، وكتابه، وسنة رسوله، وهذه الولاية لا يجوز للمسلمين الرضوخُ لها، ولا التحاكمُ إليها، بل يجب عليهم السعيُ في إزالتها، وتمكين الصالح العدل بدلًا منها.
لِـذا؛ انظروا إلى الشوكاني رحمه الله؛ وهو يرفع اللائمة عمَّن خرَجوا على حُكامهم، ويدفع عنهم، ولا يُجوِّز الحطَّ عليهم، بل ويذمّ مَن جمَدوا على الأخذ فقط؛ بظاهر أحاديث السمع والطاعة المُطلقة، حتى غلَوا فيها؛ فوسَموا بعضَ الصحابة بالبَغي؛ فيقول في (الفتح): "ولكنه لا ينبغي لمسلمٍ أن يَحطَّ على مَن خرج من السلف الصالح؛ من العترة وغيرهم، على أئمة الجور، فإنهم فعلوا ذلك باجتهادٍ منهم ، وهم أتقى لله، وأطوع لسُنة رسول الله؛ من جماعةٍ ممَّن جاء بعدهم من أهل العلم، ولقد أفرط بعضُ أهل العلم؛ كالكرَّامية ومَن وافقهم؛ في الجمود على أحاديث الباب، حتى حَكموا بأن الحسين السِّبط رضي الله عنه؛ باغٍ".
فتأمَّل وتدبَّر؛ كيف أن الشوكاني رحمه الله؛ مع كونه من القائلين بالصبر على الحاكم الجائر، وعدم الخروج عليه -علمًا بأنه يعني الحاكم الشرعي العدْل، والذي طرأ ظلمُه بعدُ-؛ إلَّا أنه لم يُبدِّع مُخالفيه، فضلًا عن وسْمهم بالخوارج، فضلًا عن تكفيرهم.
بل ويردُّ، ويصدُّ عنهم، ويدفع في وجه مَن غلا فيهم، وشنَّع عليهم، وما هذا إلَّا لأنه أنصف العلمَ والتحقيق، ولم يَنظر لنصوص الشريعة،بعينٍ عوراء، فيؤمن ببعض، ويكفر ببعض، وإنما جمع بين النصوص وألَّف، وردَّ المُتشابه إلى المُحكم وولَّف.
ومن ها هنا تَعْلَمُ:
أن هؤلاء الجامِية الغالِين، والمداخلة الجامدين، في مسائل الحاكمية؛ هم أقرب إلى الكَرَّاميَّة الضُلَّال، وليسُوا في شيءٍ من أهل السُّنة والجَلال، فطريقتُهم مع طواغيت اليوم؛ لم يُعرف لها سلفٌ، ولا يدلّ عليها علمٌ ولا دليل، وحُكمهم على مخالفيهم؛ بدعةُ العصر، ومُحدثَة الدهر.
أبو فهر المسلم
باحث شرعي و أحد طلاب الشيخ سليمان العلوان حفظه الله
- التصنيف: