قضايا الحاكمية تأصيل وتوثيق - (48) نماذج من كلمة حقٍّ، عند سلطانٍ جائر، وكيف كانُوا، وكيف صِرنا
فاعْرِض كتابَ أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل؛ فإن وجدته موافقًا لكتاب الله؛ فخُذ به، وإن وجدتَه مخالفًا لكتاب الله؛ فانبذه
قال الغزالي رحمه الله، في الإحياء: "فلقد كان من عادة السلف؛ التعرُّض للأخطار، والتصريح بالإنكار، مِن غير مبالاة بهلاك المُهجة، والتعرُّض لأنواع العذاب، لعِلمهم بأن ذلك شهادة، ولمَّا علِم المُتصلِّبون في الدِّين؛ أن أفضل الكلام؛ كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر، وأن صاحب ذلك إذا قُتل فهو شهيد، كما ورَدت به الأخبار؛ قَدِمُوا على ذلك، مُوطِّنين أنفسَهم على الهلاك، ومُحتملين أنواعَ العذاب، وصابرين عليه في ذات الله تعالى، ومُحتسِبين لما يَبذلونه مِن مُهجهم عند الله.
ثُمَّ شرَع في ضرب الأمثلة على ذلك:
1/ دخل عطاءُ بن أبي رباح، على الوليد بن عبد الملك، فلما دنَا عطاء من الوليد؛ قال: "السلام عليك يا وليد"، قال: فغضب الوليد على حاجبه، وقال له: "ويلك؛ أمَرتُك أن تُدخل إليَّ رجلًا يُحدثني ويُسامرني، فأدخلتَ إليَّ رجلًا لم يَرض أن يُسمِّيني بالاسم الذي اختاره الله لي -يعني: أمير المؤمنين-"، فقال له حاجبُه: "ما مرَّ بي أحدٌ غيره"، ثم قال لعطاء: "اجلس"، ثم أقبل عليه يُحدثه، فكان فيما حدَّثه به عطاء؛ أن قال له: "بلغَنا أنَّ في جهنم واديًا، أعدَّه الله لكل إمامٍ جائرٍ في حُكمه".
2/ وبَعث الحجاج إلى الحسن البصري، فلما دخل عليه قال: "أنت الذي تقول: قاتلهم الله، قَتلوا عبادَ الله على الدينار والدرهم؟! قال: نعم، قال: ما حملك على هذا؟! قال: ما أخذ الله على العلماء من المواثيق، ليُبينُنه للناس ولا يَكتمُونه، قال: يا حسن، أمسِك عليك لسانَك، وإياك أن يَبلغني عنك ما أكره، فأفرق بين رأسك وجسدك".
3/ ولمَّا اجتمع عمر بن هبيرة -وكان واليًا على العراق- بالحسن البصري؛ فكان ممَّا قاله الحسن له: "وحقُّ الله ألزم من حق أمير المؤمنين، والله أحقُّ أن يطاع، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، فاعْرِض كتابَ أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل؛ فإن وجدته موافقًا لكتاب الله؛ فخُذ به، وإن وجدتَه مخالفًا لكتاب الله؛ فانبذه، يا ابن هبيرة؛ اتق الله، فإنه يوشك أن يأتيك رسولٌ من رب العالمين؛ يُزيلك عن سريرك، ويُخرجك من سَعة قصرك إلى ضيق قبرك، فتدَع سلطانك ودنياك خلف ظهرك، وتَقدم على ربك، وتَنزل على عملك، يا ابن هبيرة؛ إن الله ليمنعك مِن يَزيد، ولا يمنعك يزيد من الله، وإن أمْر الله فوق كل أمر، وإنه لا طاعة في معصية الله، وإني أحذِّرك بأسَه الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين".
* وذكر الذَّهبي رحمه الله، في سير أعلام النبلاء:
- قال أحمد؛ عن ابن أبي ذئب: هو أورَع وأقوم بالحقِّ من مالك، دخل على المنصور، فلم يَهبْهُ أن قال له الحق، وقال: "الظلم ببَابك فاشٍ".
- وقال أبو نُعيم: "حَججتُ عام حجَّ أبو جعفر؛ يعني: المنصور، ومعه ابن أبي ذئب ومالك، فدعا ابنَ أبي ذئب، فأقعَده معه على دار الندوة، فقال له: "ما تقول في الحسن بن زيد؟ قال: إنه ليتحرَّى العدل، فقال له: ما تقول فيّ؟ وأعاد عليه، فقال: وربّ هذه البنية إنك لجائر"، فلما انصرف من مجلس المنصور؛ لقيه سفيان الثوري، فقال له: "يا أبا الحارث، لقد سرَّني ما خاطبتَ به هذا الجبار".
قلتُ: "وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا، أكثر من أن يُحصَر، وأشهر من أن يُذكر، والقَصصُ والأخبارُ فيه كثيرةٌ متواترة".
وهذا ابن القيِّم رحمه الله، في إعلام المُوقِّعين، يقول: "قال عُبادة بن الصامت وغيره: بايَعنا رسولَ الله؛ على أن نقول بالحقِّ حيث كنَّا، ولا نَخاف في الله لومةَ لائم، ونحن نَشهد بالله؛ أنهم وَفوا بهذه البَيعة، وقالوا بالحقّ، وصدَعوا به، ولم تأخذْهم في الله لَومة لائم، ولم يَكتموا شيئًا منه مَخافة سَوطٍ ولا عصا، ولا أمير ولا والٍ، كما هو معلوم لمَن تأمَّله من هديهم وسيرتهم.
فقد أنكر أبو سعيد على مروان، وهو أمير على المدينة، وأنكر عبادةُ بن الصامت على معاوية، وهو خليفة، وأنكر ابنُ عمر على الحجَّاج مع سَطوته وبأسِه، وأنكر على عمرو بن سعيد، وهو أمير على المدينة، وهذا كثيرٌ جدًّا مِن إنكارهم على الأمراء والوُلاة؛ إذا خَرجوا عن العدْل".
أبو فهر المسلم
باحث شرعي و أحد طلاب الشيخ سليمان العلوان حفظه الله
- التصنيف: