الجبر والإرجاء دين الملوك

منذ 2014-12-20

إذا اجتمعت كل هذه النظريات (الإرجاء- الجبر- الرضا بالبلاء- وعدم دفعه بالجهاد) فلن تكون النتيجة إلا خضوع الأمة ونزولها علي رأي الطغاة

نظرًا لكثرة الثورات التي قامت على بني أمية وكانت سوف تودي بحكمهم إلى الفناء وبملكهم إلى البلاء، لجؤوا إلى تشجيع وترويج فكر وعقيدة القول بالجبر والإرجاء. فكما يقول الأستاذ علي سامي النشار: "وقد ذهب بعضهم إلى القول بأن قرّاء الشام أعلنوا فكرة الجبر المطلق، وأنها التفسير الوحيد للنصوص القرآنية، فعلوا ذلك إرضاءً للخليفة المغتصب (يقصد الخليفة الأموي)، وأمر الخليفة عُماله في مختلف بقاع العالم الإسلامي بنشر الفكرة، وأخْذ الناس بها، فليؤمن بها الكبير قَسْرًا، وليَرْضَعْها الصغير ويَحْبُ بها ومعها، لتذلّ أعناق الناس لهم بالجبر الإلهي، ويخضعوا لحكمهم على أنه قدَرٌ عليهم أَزَلاً. فلما أنكر القدرية ذلك، ودعوا إلى مذهب الإرادة الحرة في الاختيار، حاربهم الأمويون"(1).

و يقول الدكتور محمد صالح السيد: "كما يبدو أن للجو السياسي في عصر بني أمية أثره في تيار الجبر واستغله بعض حكام بني أمية في القول بأن جميع ما يقع من أفعال إنما هو بقدر الله تعالى فأدت مغالاة الجبرية في أقوالهم إلى ظهور تيار نفاه القدر أو الحرية"(2).

وكذلك أيضًا بالنسبة لفكر وعقيدة الإرجاء الذي يعد مكملًا لعقيدة الجبر حتى يرسخ في ذهن الأمة الخنوع والانقياد للطغاة بوازع ديني. قال قتادة رحمه الله: "إنما أُحدِث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث"(3).

وظهر أيضًا ما يُعرف بإرجاء الفقهاء؛ "والإرجاء وهو أن الإيمان مجرد التصديق، ولا كفر إلا بالجحود؛ فمهما فعل الخلفاء والأمراء من انحرافات فإنهم لا يخرجون من دائرة الإسلام ما داموا يقرون بالشهادتين مهما استحلوا من المحرمات وفعلوا من الموبقات وارتكبوا من المحرمات.

وشيوع الجبر في الاعتقاد.. أن الإنسان كالريشة في مهب الريح، أو أنه لا فعل له على الحقيقة إلا الاستسلام للواقع والاتكالية بدعوى الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الملوك الظَلمة هم عقابٌ من الله وإنما ظلمهم وبطشهم ما هو إلا شيء خارج عن إرادتهم (إرادة الله)، وما هو إلا بقضاء الله وقدره، والواجب علينا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره.

إذا اجتمعت كل هذه النظريات (الإرجاء- الجبر- الرضا بالبلاء- وعدم دفعه بالجهاد) فلن تكون النتيجة إلا خضوع الأمة ونزولها علي رأي الطغاة، فلم يكن سقوط الأمة تحت أقدام جيوش التتار إلا نتيجة منطقية طبيعية لشيوع مثل هذه النظريات التي تحمل في طياتها بذور الموت والفناء لأي حضارة إنسانية تروج فيها، ولأي أمة تدين بها وتعتقدها"(4).

لذلك رأى بنو أمية في ترويج مثل هذه النظريات كحركة فكرية تناوئ التراث الثوري للسلف الثائر من الصحابة كالحسين بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن الزبير وعبد الله بن حنظلة الغِسّيل وغيرهم من الصحابة الذين شاركوا في ثورة ابن الأشعث على بني أمية.

لذلك لما سُئل المأمون عن الإرجاء قال: "هو دين الملوك"(5). ونقل ابن كثير رحمه الله عن ابن عساكر أنه روى من طريق النَّضْر بن شُمَيْل قال: دخلت على المأمون فقال: كيف أصبحت يا نضر؟ قال: قلت: بخيرٍ يا أمير المؤمنين. فقال: ما الإرجاء؟ فقلت: دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم. قال: صدقت. ثم قال: يا نضر، أتدري ما قلتُ صبيحة هذا اليوم؟ قلت: إني لمن علم الغيب لبعيد. فقال: قلتُ أبياتًا، وهي:

أصبح ديني الذي أدين به *** ولست منه الغداة معتذرا

حبّ علي بعد النبي ولا *** أشْتُم صِدِّيقًا ولا عُمرا

ثم ابن عفّان في الجنان مع الـ *** أبرار ذاك القتيل مُصْطبرا

ألا ولا أشتم الزبير ولا *** طلحة إن قال قائلٌ غَدَرَا

وعائش الأُمّ لست أشْتُمها *** من يفتريها فنحن منه بَرَا (6)

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نشأه الفكر الفلسفي في الإسلام.

(2) عمرو بن عبيد وآراؤه الكلامية.

(3) الشريعة للآجوري.

(4) الحرية أو الطوفان د. حاكم المطيري، بتصرف.

(5) الأسماء والكنى للدولابي.

(6) البداية والنهاية.

أحمد عز الدين

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام