أَعُلماء عَلمانيون؟! - (8) فقه الواقع ليس فقه خواص ولا طلاسم

منذ 2014-12-23

إذا لم يكن علماء الشريعة -أو منهم على الأقل- مَن هم مِن الخواص، فمن يكون؟! أيكون من الخواص من تربى في أحضان الغرب ثم جاء يجثم على صدر الأمة، يحكم فيها بجنكز خان، ثم يعجز علماء المسلمين أن يفقهوا أمور سياسة الأمة بشريعة ربها؟!

طلاسم أو فقه الخواص!

ذكر الشيخ صالح حفظه الله أن فقه الواقع فقه الخواص، قال: "لأن هذا الفقه الخاص الذي يُسمى  فقه الواقع هذا لا يدركه علم - وليس فقهًا- لا يدرك معرفته إلا الخواص جدًا".

وأقول: الكلام حول هذا التوصيف والتقعيد لفقه الواقع أنه فقه الخواص، ومن قبل كان ليس شرطاً في عالم الشريعة أن يفقهه، فالكلام عليه من وجوه:

يقرر الشيخ حفظه الله أن فقه الواقع السياسي فقه الخواص، وبنى عليه أنه لا يجب على علماء الشريعة، بل لا يدركونه، ولأن الأمة أمية والشريعة أمية!

وأقول: إذا لم يكن علماء الشريعة -أو منهم على الأقل- مَن هم مِن الخواص، فمن يكون؟! أيكون من الخواص من تربى في أحضان الغرب ثم جاء يجثم على صدر الأمة، يحكم فيها بجنكز خان، ثم يعجز علماء المسلمين أن يفقهوا أمور سياسة الأمة بشريعة ربها؟!

فأيهما أكثر دقة وخصوصية وخطورة، فقه الكتاب والسنة، أم فقه تصرفات الناس؟! ومَن مِن علماء المسلمين حَكَم بأن فقه الواقع السياسي فقه الخواص الذي يعجز عن معرفته وفقهه علماء المسلمين، أو أخرجه من اختصاص علماء الشريعة أو من فقه الشريعة لأجل ذلك؟! أمَا كان علماء السلف من الصحابة فمن بعدهم يفقهون الواقع السياسي، ليس للأمة الإسلامية فحسب، بل للعالم؟

أين الأدلة الشرعية والواقعية على أن فقه الواقع السياسي لا يدركه إلا الخواص؟!

ولو سلَّمنا -جدلاً- أنه فقه الخواص؛ فهل يُشترط لكل شخص في الأمة أن يفقه كل دليل شرعي من القرآن والسنة، ويسبر غوره ويدرك كنهه؟ ليس في الفقه السياسي والسياسة الشرعية فحسب، بل حتى في أمور عباداتهم اليومية الضرورية، فيه مجتهدون وعامة مقلدون، مع لزوم الشريعة لهم جميعًا، فهل قدح ذلك في الشريعة؟!

أليس في فقه الكتاب والسنة ما يعرفه كل الناس، ولا يُعذر بجهله أحد، ومنه ما يعلمه العلماء الراسخون فقط، ومنه ما لا يعلمه أحد، وأن من ادَّعى علمه فهو كاذب.

أليس في مسائل الفقه ما يعزب علمُه وفقهه عن جماهير المسلمين، ولا يدركه إلا العلماء الراسخون؟ وولو كان شرط دخول الشيء في الشريعة أن يفقهه كل الناس لاستوى العالم والجاهل في معرفة دين الله والفقه في شريعته، والعلم بتأويل كتابه! ولذهبت مزية العلم والعلماء!

أليس في القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله، كما قال تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]؟ قال ابن عباس رضي الله عنه: "التفسير على أربعة أوجه: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعلمه إلاّ العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله، من ادعى علمه فهو كاذب"، فابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن يقرر أن من التفسير ما لا يعلمه إلا العلماء؛ أليس العلم الذي لا يعلهم إلا العلماء فقه خواص؟ وإذا كان فيها فقه الخواص، ألا يقدح هذا فيها، وفي القرآن الذي قال عنه الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:40]؟ هذا فضلاً عن أن فيه ما لا يعلمه إلا الله، ومن ادَّعى علمه فهو كاذب؟ فحتى الخواص لا يعلمونه! ومع ذلك لم يُعدَّ قدحًا في القرآن ولا في الشريعة التي جاء بها، فعلى حسب زعم الشيخ يقدح!

كان نصف التفسير تعرفه العرب: ما لا يعذر بجهالته أحد، وما تعرفه من لغتها.. وثلاثة أرباعه تعرفه العلماء... أما الآن فأكثر العرب ليسوا عربًا، لبعدهم عن اللسان العربي، حتى بعض العلماء لا يجيدون العربية كالعرب إلا من اجتهد في تعلُّمها!

الأمية وفقه الواقع  

والاستدلال والتقعيد على أن "فقه الواقع السياسي من علوم الخواص" وأن "الأمةَ أميَّةٌ وشريعتها كذلك أميَّة!" فيه نوع من تجهيل الشريعة في سبيل تَكلُّف عَلمنة السياسة وتعجيزها عن الإحاطة بفقه الواقع، وقد قال في الموضع ذاته: "ومعلوم أن من القواعد الشرعية التي قررها الشاطبي وغيره في كتاب الموافقات وقررها غيره: أن الشريعة -شريعة الإسلام- أمية؛ يعني أنها في تشريعاتها وفيما يطلبه الشارع من أهلها رعى فيها حال الأكثرين وهم الأميون، كما قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم «نحن أمة أمية» وإذا عُلِّقت الأحكام بما لا يدركه إلا الخواص كان هذا قدحًا في الشريعة؛ لأن الأحكام التي يحتاجها الناس جميعا هذا لا يعلق بها معرفة الخواص..." ا هـ.

أقول: الظاهر أن ما ذُكِر عن الإمام الشاطبي رحمه الله، لا علاقة له بهذا الموضوع بوجه من الوجوه، وإنما له سبب آخر تمامًا، يتعلق في أساسه بتفسير القرآن تفسيرًا علميًّا، فتقعيد الإمام الشاطبي في "أمية الأمة، وأمية الشريعة" مجال نقاشها يطول، وقد ردَّ عليها العلماء كثيرًا، ولم يوافقوه على إطلاق قوله هذا، فبعضهم قيَّده له، وبعضهم خطَّأه فيه اصلاً، وفي آخر البحث، نوجز في مناقشته -إن شاء الله-.

فالاستدلال بمقولة الشاطبي أو تنزيل الحديث المستنبطةِ منه في هذا الموضوع بعيد النجعة، وذلك لأمور:

أولاً وقبل كل شيء: هذا الذي ذكر الشيخ وسماه قاعدة شرعية، غيرُ مُسَلَّم؛ وإنما هي قاعدة شاطبية وليست شرعية، على فرض أن هذا هو سياقها الذي أراده الشاطبي، وقد تصح وقد لا تصح، فهو ليس حجة ولا معصومًا. وحتى لو سلَّمنا أن قول الإمام الشاطبي هو ما أوحى الشيخ بأنه هكذا، أو أن تقعيده يقتضيه، فالعبرة بالدليل وحسن التنزيل، فما قام عليه الدليل وصدَّقه البرهان قُبِل، وإلا فلا.

ثانيًا: إن الإمام الشاطبي لم يمثل لها بهذا الباب أو الموضوع بالذَّات، وإنما هو استنباط الشيخ في تنزيلها على هذا النوع من الفقه، بعد أن اجتهد في تقرير أن "فقه الواقع السياسي من علوم الخواص جِدًّا وهو ليس مُسَلَّمًا أيضًا!" ولو قُدِّر أنَّا سألنا الإمامَ الشاطبي رحمه الله عن فقه الواقع السياسي للأمة أو لما حولها من الأمم، هل هو من فقه الخواص، أم هو من علوم يعلمها العلماء؟ فلو قدَّرنا أن إجابة الشاطبي أنه من علوم الخواص، فحينئذِ- ربما- يصحَّ تخريج الشيخ لفروعه على أصول الإمام الشاطبي! ثم يُنظر في صحتها بعد ذلك.

ثالثا: ما أشرنا إليه من أن الشاطبي قال هذا في معرض إنكاره التفسير العلمي للقرآن، والذي يغوص في معاني لا تدركها العوام، والكلام في التفسير العلمي للقرآن معروف ويحتاج إلى تفصيل ليس هذا موضعه، ويهمنا أنه ليس في فقه الواقع عمومًا ولا السياسي خصوصًا.

رابعًا: أنه لا يُسلَّم بأن "فقه الواقع" فقه الخواص جِدًّا، بل هو فقه يتطلب ما تتطلبه العلوم الأخرى من جد واجتهاد وبحث واطِّلاع، وممارسة وتجريب وخبرة وتتبع واستنباط، وتحليل، وربط الأمور ببعضها.. وعجزُ فرد أو أفراد عن معرفته أو فهمه لا يُصَيِّره صعبًا على الجميع، أو أنه من فقه الخواص، كما أن اعتزال بعض العلماء ممارسته -خلفًا أو سلفًا- لا يُصَيِّر اعتزالَهم شرعًا مُتَّبَعًا على الجميع، بل ولا يُعتبَر حتى فتوى منهم باعتزاله!

خامسًا: أن الحديث ورد موردًا خاصًّا، وبَيَّن العلماء معناه وملابسته، ولو حملناه على ظاهره، لألغينا كل كتابة وكل حساب من حياة المسلمين، لأن الحديث بتمامه من غير اجتزاء له يقول: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا» "يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين" (متفق عليه)، والأمة الآن ومِن قبلُ ومن بعدُ قد صارت تكتب وتحسب، وقد رفع الله عنها الأمِّيَّة بما أنزل عليها من علم وما أرسل إليها من رسول قال ابن العرب: «إنا أمة لا نحسب ولا نكتب» فإن هذا إنما جاء لبيان صورة معينة خاصة" (عن فتح الباري [4/422]).

وفي المقال اللاحق إن شاء الله تعالى نتكلم عن أُمِّيَّةِ الأُمَّةِ، وبيان حقيقة هذه الأميَّة، والخطأ الذي وقع فيه البعض فجرَّ شينًا على الأمة وتجهيلًا على شريعتها.

يتبع للمقالات:

أَعُلماء عَلمانيون؟! (1): الطريق إلى علمنة العلوم الشرعية

أَعُلماء عَلمانيون؟! (2): تنصير الشريعة وإشراك قيصر

أَعُلماء عَلمانيون؟! (3): سياسة العَلْمَنَة والسيرة النبوية

أَعُلَماء علمانيون؟ (4): فقه العَلمنة، والسياسة في السنة

أَعُلَماء علمانيون؟ (5): الإرجاء في خدمة العلمانية

أعلماء عَلمانيون؟! (6): فقيهٌ بالشرع لا يفقه الواقع

أَعُلماء عَلمانيون؟! (7): فقه الشرع ليس فقها للواقع

 

1 ربيع الأول 1436 (23‏/12‏/2014)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

المقال السابق
(7) فقه الشرع ليس فقها للواقع
المقال التالي
(9) أمية الأمة وفقه الواقع