من بين يديه تسيل الدماء!

منذ 2015-01-08

الحقيقة أن القيمة ليست في الشبر، إنما هي في القرار الفصل، وهذا هو الفارق؛ بين من يصطلح بين الناس على تسميته ملتزمًا، أو مستقيمًا، و بين غيره، وهذا هو معيار التغيير، ومناط النجاة: أن يشاء، ثم يسلك، فيستقيم على الطريق، ويقترب، ولو بشبر!

وعلى وجهه تظهر العلامات، وفي قسماته تبدو الأمارات؛ علامات الإجرام، وأمارات الطغيان.

ليس مجرمًا عاديًا هو، إنه سفاح باطش، لا يعرف إلا سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، يده إلى سلاحه أسبق من فكره ولسانه.

إنه يعالج بالسيف كل ما يشكل عليه، و يغير به كل ما يضايقه، أو يعكر صفوه.

ها هو ذا؛ يقف بجسده الضخم، وملامحه التي قُدت من صخر، وطلعته التي تقبض النفس، وتثير في القلب كوامن الخوف والذعر.

وجه مظلم، وسمت تخيم عليه ظلال دماء؛ دماء طالما أُريقت بغير حق على يديه الغليظتين.

وقف متحفزًا متنمرًا، أمام هذه الفريسة النحيلة، التي أوقعها نصيبها في طريقه.

الفريسة هذه المرة رجل بسيط زاهد؛ قُدِّر له أن يكون محلًا لسؤال السفاح.

سؤال ما كان لمثله أن يجيبه؛ ما له هو وللعلم؟!

إنه رجل عابد، بضاعته في العلم مزجاة، ورحاله في فيافيه وقفاره ضالة، ليست مرتجاة.

ألا سأل إن لم يعلم؟!

ألا قال لا أعلم؟!

لماذا تسرع فأجاب السؤال؟!

أليس يلمح بناظريه قبضة السفاح؛ على قائم السيف، متحفزة بعد أن ألقى السؤال؟!

ها هو ذا ينطق بالإجابة، فما إن تكتمل حروفها؛ حتى يطير السيف بسرعة البرق، مطيحا برأسه، وصدى كلماته يتناثر مع رذاذ الدماء المتفجر من عنقه :

"ليس لك توبة! مخلد في النار، ما عاد ينفعك متاب".

هل هذا يعقل؟!

أنت أيها السفاح!

عن التوبة تسأل!

غريب أمرك!

إن دماء عشرات الضحايا التي أرقتها لم تبرد بعد، وها هو ذا آخرها يتناثر على وجهك، ويلوث شفرة سيفك، وعن التوبة تسأل! عن التوبة تبحث يا قاتل المائة نفس!

ارتعدت فرائص المارة، وهم يشهدون تلك الجريمة، دون أن يحرك أحدهم ساكنًا، نظرات اللامبالاة، ممزوجة بالخوف، تطل من أعينهم، لتصطدم بنظرات التحدي الممزوج بالحيرة، والتي أطلت من عينيِّ السفاح،
"يا لكم من قوم سوء، ألا تمنعون المجرم؟! ألا تصدونه عن ظلمه؟! أتشهدون جريمة قتل مكتملة الأركان، دون أن تفعلوا شيئًا؟! يا لسلبيتكم و خوركم!"

"والله إنكم من شجعتم الظالم على أن يظلم؛ بتخاذلكم وانكماشكم عن الأخذ على يديه، حقًا إنكم لقوم سوء، وإن، أرضكم لأرض شر، دلوني على أعلم أهل الأرض".

دَوى صوت السفاح هادرًا كهزيم الرعد، يهز أرجاء المدينة، ويزيد من ارتجاف المرتجفين، وترويع المارين، بساحة مسرح الجريمة المريع.

سفاح يبحث عن توبة !

ما أعجب أمرك يا سفاح!

لله في خلقه شؤون .

سارع القوم يجيبون نداء المتجبر خشية بطشه، لكنهم هذه المرة أصابوا، لقد دلوه على من فضله على الأول كفضل القمر على سائر النجوم؛ دلوه على أحد الموقعين عن رب العالمين؛ دلوه على وعاء للعلم خزانة للذكر؛ لقد دلوه على عالم.

ما لك تهرع إليه مسرعًا أيها السفاح؟!

لكأنك راغب في التوبة حقًا، مريد للاستقامة يا سفاح!

لم تضيع وقتًا؟!

سارعت بهمة!

وطرقت الباب !

ما أعجب أمرك يا سفاح!

أطلّ الشيخ، من خلف الباب، سيما العلماء على وجهه، قد أشرق نور الأذكار.

بصوت وقور لم يبد عليه أي تأثر بسمت الإجرام الذي يقف أمامه قال الشيخ: "ولدي، ما تبغي؟"

عجبًا للشيخ؛ أما تدري؟!

لكن الحكمة أن يسأل، ويجيب الضيف: "إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟"

بصوت أجش غليظ قالها السفاح!

لكن! في غلظة الصوت، كانت نبرة غريبة!

وتسلل حزن، من بين ثنايا الكلم، يخترق القسوة البادية على السمت والقسمات.

عجيب حقًا؛ قد سالت دمعة!

ربما لا يلحظها لدقتها من ينظر من بعيد، لكنها، والنبرة، لم تكن لتغيب عن فراسة عالم من أهل الخبرة.

يبدو أن شيئًا ما قد تحرك في قلب السفاح، يبدو أنه فعلًا شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا، وأراد حقًا أن يستقيم، فلتخرج

إجابة العالم هذه المرة صائبة، فاتحة للأمل الأبواب، ولتشح بفأس الرجاء جذوع قنوط؛ قد سكنت قلب السفاح!

وليضئ نور العلم، جنبات نفس قد تاقت إلى الخلاص، ولتطهر كلماتك أيها العالم نجس الموبقات التي دنست

الفؤاد، ولوثت طهر النفس، وسودت بياض القلب، يا لها من لحظة، ويا لها من حالة، ومن مجال، ويا له من

شعور؛ راحة تغمر قلب السفاح.

ما أعظم صرخة قلب ملهوف؛ لمغفرة رب سميع قريب ودود رحيم رحمن.

يا الله!

ما أحلاها من كلمات!

قلها، رددها مرات أخرى!

أَسْمِعْني!

أشجني، أطرب روحي برحمات كلماتك، بوقع تغلغلها، تتسرب بعميق النفس!

ماذا تقول يا سيدي؟!

هل حق ما منك أسمع؟!

أفتسأل عن حائل بيني وبين التوبة أطلبها، حقًا تسأل؟!

لا تجد بعلمك ما يمنع؟!

ليس لأحد، ليس لعبد، سد الباب الأوسع؟!

وعن غدراتي، عن فجراتي؛ كيف سأصنع؟!

انتظر! أيها التائب.

أَمْسِك عن فرحتك هُنيهة؛ فإن العالم لم يكمل فتواه بعد

استمع وأنصت:

"اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها، إلى القرية الصالحة؛ قرية كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد ربك

معهم فيها، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء".

بلى أفعل؛ صاح التائب ردًا

حقًا صدق العالم، أرض سوء، وأهل منكر، لم ينهوننى يومًا عن فحش، أو أسمع منهم نصحًا، لم أجد فيهم من يرشدني إلى سبيل الله، ولم أسمع فيهم من يصدع، لم أجد فيهم صحبة صالحة؛ تعينني على القيام بأمره، فقط وجدت انبطاحًا وارتجافًا، زادني طغيانًا وغدرًا، ولكأني بحالهم كحال قوم استخفهم طغاتهم فأطاعوهم، وإن قومًا يفعلون ذلك لهم حقًا قوم سوء فاسقون.
 

لست أدري كيف أشكر لك صنيعك شيخي، لقد نقلتنى من حال إلى حال، وانتشلت قلبي من غيابات اليأس، لترفعني إلى ثريات الأمل، لكأني صرت شخصًا آخر، شخصًا مختلفًا

حان الوقت؛ لأن أنطلق، فالقلب يهفو لواحة الأمل؛ التي عليها دللتني، والنفس تشتاق لسبيل المؤمنين؛ التي إليها أرشدتني، وكفى من العمر ما فات، فلأعوض فيما هو آت.

قال هذه الكلمات ، و هو لا يدري أنه لم يتبق كثير فيما هو آت.

لم تتبق إلا سويعات!

لم يضع منها لحظة!

ما أثمن السويعات الفارقة!

سويعات التوجه للفاطر الأول

لم ينظر التائب خلفه.

لم يثقله إخلاد إلى الأرض.

لقد تحرر من أثقال القرية الظالمة، ومضى سائرًا بعزم النادم الصادق، قاصدًا طريق المتقين، ويَمم جوارحه شطر بلاد الصالحين.

لقد شاء هذا التائه أن يستقيم، لقد شاء أن يتبع سبيل المؤمنين، وهنا مربط الفرس، ومناط التغيير؛ أن يختار المرء طريقه، وأن يسلكه.

هذا الرجل الذي كان منذ سويعات؛ أو أيام قاتلًا سفاكًا للدماء، صار بهذا القرار، وذاك الاختيار، عبدًا يحرك الله لأجله الأرض فيطويها!

الرجل الذي كان أبعد ما يكون، صار -بخطوة تقرب بها شبرًا- أقرب ما يكون!

ويا لهول المفاجأة! لقد مات!

مات الرجل!

مات التائب في طريقه إلى هناك!

قضى نَحْبَه؛ ولم يصل بعد إلى مبتغاه.

لكنه يمم وجهه شطر غايته، واتخذ إلى ربه سبيلًا.

ها هو ذا الوجه ميمم، والصدر ينأى ناحية الأرض الصالحة، وكأنه عرف الموت فآثر السعي، ورغب بسرعة في الوصول إلى المقام المأمول!

أصر أن يحاول حتى آخر نفس يلفظه الصدر المحتضر!

وعلى الفور، سارعت إليه ملائكة العذاب، وقد ظنت أنها الأَولى به، فهو معلوم لديها، وهو البعيد المشتهر بأنه لم يعمل خيرًا قط، لتواجهها ملائكة الرحمة، وقد علمت أنه تاب، واتخذ القرار، وسلك طريق الأبرار، وهذا يجُب ما قبله.

لكن الوضع صعب؛ إنه قاتل المائة نفس، والنزاع على روحه بين الملائكة يشتد، وإبليس يقف، ويشاهد ويتدخل في الجدال من آن إلى آخر، قائلًا في رغبة حقيرة: "أنا أولى به، إنه لم يعصني ساعة قط".

لا بد من حَكم يفصل بين الجميع، فليختصموا إلى هذا الآدمي -الذي هو ليس بآدمي- و ليرضوا بحكمه، ما كان أخصر قضائه، وأحسم حكمه؛

"قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له".

فليكن إذًا، نِعم الحكم هو، فليبدأ القياس، ولتبدأ المعجزة!

الحقيقة أن الرجل لم يكن قد قطع مسافة كافية بعد، لكنه كان صادق الرغبة، مخلص المشيئة، ولقد أراده مولاه، نعم أراده، وهو القائل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27].

الله يريد، والعبد صدق ربه؛ اقترب، نأى بصدره، ويمم وجهه، والرحمة سبقت.

فلتتغير النواميس، ولتطو الأرض، أو تسيَّر، أو حتى تُقطع، فالرحمة سبقت!

ولتعلُ الروح إلى بلاد الأفراح!

لقد أوحى الله إلى أرض الصالحين أن تقاربي، وأوحى إلى الأخرى أن تباعدي، فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد بشبر.

شبر واحد؛ وفقط شبر!

يا للعجب!

شبر أحدث فرقًا!

شبر واحد!

لكنه ليس أي شبر!

إنه شبر الصدق!

شبر للأرض الطيبة، والبيئة الصالحة.

لقد غُفِرَ للرجل على ما كان منه، وقبضته ملائكة الرحمة، بفارق شبر! وهو الذي طالما قطع أميالًا في المعاصي والموبقات!

ما أرحمك يا الله!

الحقيقة أن القيمة ليست في الشبر، إنما هي في القرار الفصل، وهذا هو الفارق؛ بين من يصطلح بين الناس على تسميته ملتزمًا، أو مستقيمًا، و بين غيره، فالأول شاء، ثم قرر، ثم سلك وصدق، قال ربي الله، ثم استقام، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا. وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:29-31].

هذا هو معيار التغيير، ومناط النجاة: أن يشاء، ثم يسلك، فيستقيم على الطريق، ويقترب، ولو بشبر!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام