أَعُلماء عَلمانيون؟! - (9) أمية الأمة وفقه الواقع

منذ 2015-01-11

لا نجادل في ورود صفة الأمِّيَّة للنبي صلى الله عليه وسلم، وللأمة ولبعض أهل الكتاب أيضًا، فوصف الشخص -عدا رسول الله- أو المجموعة بالأمية ليس مدحًا بذاته، إلاَّ من الناحية الفطرية لسلامة خلق الله أولا، حين يكون سليمًا كما ولدته أمُّه.. فإذا كانت الأمية عدم الكتابة وعدم قراءة المكتوب، فهل يعني هذا أنها تظل أميةً الأميةَ المطبِقة، وهل شريعتها أيضًا أمِّية على هذا المعنى الراجح للأمية؟

ما زلنا في أزمة العَلمنة، وأضرُّها على الأمة وشريعتها ما جاء بتقعيده علماء شريعة، فأصَّلوا للعَلمانية بنصوص شرعية وقواعد شرعية، بوضعها في غير مواضعها أو فهمها على غير وجهها، أو بعدم النظر إلى عواقب ومآلات فتاويهم وتأصيلاتهم.

ولا نجادل في ورود صفة الأمِّيَّة للنبي صلى الله عليه وسلم، وللأمة ولبعض أهل الكتاب أيضًا. وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالأمية: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الأعراف:258]. مع أنه يدخل أيضًا في حكم الحديث، لأن فيه الضمير «إِنَّا» فيدخل المتكلم فيه.

أما كون الأمة أمية فقد وردت في هذا الحديث، وورد في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].

وورد وصف بعض أهل الكتاب أيضًا بالأمية: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[البقرة:78]. قال الإمام مجاهد في تفسيرها: أي: "أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئًا، ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقوَّلون الأباطيل كذبًا وزورًا". وهذه أمِّية كسبية مذمومة، ليست كالأمية التي جاءت في وصف نبينا وأمتنا، فهي أمِّية جبلية أصلية، وإن عاد أصلها إلى عدم الفقه والعلم.

معنى الأمية

الأمِّية: الأميّ هو المنسوب إلى أُمِّهِ حين ولدته، لا يقرأ المكتوب ولا يكتب ولا يحسب، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].

قال الطبري: يعني بـ (الأميين) في الآية: "الذين لا يكتبون ولا يقرؤون". فالذي يكون على الحال التي ولدته عليها أمُّه يُسمَّى أميًّا، وهنا من ناحية عدم العلم والكتابة والقراءة ونحوها إجمالًا، وكلما قَرُبَ الشيءُ من الشيءِ أخذ حكمه أو وصفه أو اسمه، على قاعدة العرب في الإطلاقات.

فوصف الشخص -عدا رسول الله- أو المجموعة بالأمية ليس مدحًا بذاته، إلاَّ من الناحية الفطرية لسلامة خلق الله أولاً، حين يكون سليمًا كما ولدته أمُّه، كما في الحديث: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» (البخاري، برقم:[1358]، ومسلم، برقم:[2658]؛ في صحيحيهما)، ومن هذا الجانب وبهذا المعنى للأمية لا خصوصية لبشر على بشر حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أنهم يولدون على الفطرة، تصديقًا للحديث السابق، فوصْفُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالأُمِّي هنا ليس على تفسير الفطرة، فبقي تفسيرها على أنه كما ولدته أمه لا يكتب ولا يقرأ المكتوب المسطور، وهذا نفسه آية إعجاز وبراءة من تهمة الاقتباس من كتب الأولين،  لكنه يقرأ من يوم أن قال له الله عن طريق جبريل {إقرأ}؛ فقرأ غيبًا لا خطًّا، وظل كذلك لا يخط الكتاب بيمينه، حتى في صلح الحديبية، كان كاتبه عليٌّ رضي الله عنه، وكان يقول له أرنيه فيمحوه ما أراد..

هل أمِّية الأمة أبدية

فإذا كان المقصود هنا بالأمية عدم الكتابة وعدم قراءة المكتوب، فهل يعني هذا الوصف بالأمية أنها تظل أميةً الأميةَ المطبِقة، وهل شريعتها أيضًا أمِّية على هذا المعنى الراجح للأمية؟

وهل الشريعة جاءت لتقرير الأمية وتكريسها، أم أنها جاءت لترفعها وتُحِلُّ مكانها العلم والحكمة؟

أم إن الأمَّة تعلَّمت القراءة والكتابة والحساب، فهي الآن أُمَّة تكتب وتحسُب، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5]. ولا يقوم علم الفرائض فيها إلا على دقة الحساب، وهو من أعظم العلوم، حتى حارت فيه عقول الرياضيين في الغرب.

ثم إن هناك حسابًا متعلقًا بالكواكب والنجوم، ومنازل القمر وحركة الشمس، حتى حساب الظل والفيء في تحديد مواقيت الصلاة. فكم عدد المسلمين اليوم الذين يستطيعون تحديد وقتي الظهر والعصر دخولًا وخروجًا بحساب طول الظل؟ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَّني جبريلُ صلوات الله عليه عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيءُ مثل الشِّرَاك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثلَ ظِلِّه...» (أخرجه أحمد في المسند، برقم:[3220] وحسنه شعيب الأرناؤوط فيه، وصححه الألباني؛ إرواء الغليل، برقم: [250]).

قال في جامع الأصول: "«قدر الشِّراك»: الشِّراك: سير من سيور النعل، وليس قدر الشراك في هذا على التحديد، والزوال لا يُستبان إلا بأقل ما يُرى من الفيء، وأقله فيما يُقَدر: هو ما بلغ قدر الشراك أو نحوه، وليس هذا المقدار مما يتبين به الزوال في جميع البلدان، إنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي يقل فيها الظل، فإذا كان أطول يوم في السنة واستوت الشمس فوق الكعبة، لم يُرَ لشيء من جوانبها ظل، فكل بلد يكون أقرب إلى خط الاستواء ومعدل النهار، يكون الظل فيها أقصر، وكلما بعد عن خط الاستواء ومعدل النهار، يكون الظل فيه أطول" (ابن الأثير (المتوفى: 606هـ)؛ جامع الأصول في أحاديث الرسول، 5/ 209).

أليس هذا من العلم الخاص جدًّا؟ ومع دقة متابعة هذا وحسابه؛ عُلِّقت به مواقيت أعظم شعيرة إسلامية عملية ظاهرة، وأكثرها انتشارًا ولزومًا في حياة المسلمين عامة.

فهل يقدح هذا في الشريعة على ما قال الشيخ حفظه الله؟! وإذا كان هذا على دقته لا يقدح في الشريعة فكيف يقدح فيها فقه الواقع، لو سلَّمنا أنه دقيق وخاص؟!

وبعدُ؛ فهل يصلح هذا أصلًا شرعيًّا نُسلِّم به ميراثنا من الأرض للعلمانيين؟

وفي المقالة القادمة إن شاء الله تعالى نتناول مورد الحديث الذي يستدل به بعض المعاصرين على أمية الشريعة وعلى علمنة الواقع السياسي، ونذكر فيها فهم العلماء الأولين له.

يتبع

يمكن مراجعة المقالات السابقة:

أَعُلماء عَلمانيون؟! (1): الطريق إلى علمنة العلوم الشرعية

أَعُلماء عَلمانيون؟! (2): تنصير الشريعة وإشراك قيصر

أَعُلماء عَلمانيون؟! (3): سياسة العَلْمَنَة والسيرة النبوية

أَعُلَماء علمانيون؟ (4): فقه العَلمنة، والسياسة في السنة

أَعُلَماء علمانيون؟ (5): الإرجاء في خدمة العلمانية

أعلماء عَلمانيون؟! (6): فقيهٌ بالشرع لا يفقه الواقع

أَعُلماء عَلمانيون؟! (7): فقه الشرع ليس فقها للواقع

أَعُلماء عَلمانيون؟! - (8) فقه الواقع ليس فقه خواص ولا طلاسم

 

تاريخ النشر: 20 ربيع الأول 1436 (11‏/1‏/2015)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

المقال السابق
(8) فقه الواقع ليس فقه خواص ولا طلاسم
المقال التالي
(10) لا فقه واقع ولا فقه سُنة