تنازع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على قطاع غزة
استطاعت أجهزة أمن حماس أن توجه ضرباتٍ موجعة إلى الشبكات القديمة والجديدة، التي شكلتها أجهزة المخابرات، وعملت سنين طويلة على تنظيم عملها وتطويره، واستفادت من جهودها كثيراً، وأحبطت بواسطتها الكثير من العمليات، وتمكنت من الوصول إلى الكثير من الأسرار التي ساعدتها على تصفية الخطرين واعتقال المطلوبين.
شكل قطاع غزة نقطة خلاف بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المختلفة، كلٌ يدعي أنه صاحب الحق الحصري في العمل داخله، وأنه يدخل ضمن صلاحياته الفنية والعملية، وأنه المخول دون غيره بالتغلغل فيه، واختراق نسيجه، وبث عملائه، وتشغيل جواسيسه والاتصال بهم، والحصول منهم على المعلومات المطلوبة، وتزويد الجهات الأخرى بحاجتها وما يلزمها، وفق تنسيقٍ محكمٍ، وضوابط واضحة، لا تسمح بالتداخل ولا بالازدواجية، ولا تؤدي إلى كشف العملاء وفضحهم، أو اضطراب العمل وتعطل الأدوات والآليات.
الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الثلاثة ترفض التسليم لبعضها بالحق الحصري، وتصر على العمل في القطاع وكأنه ميدان سباقٍ وتنافس، وساحة عملٍ وكسب، وأنها أرضٌ بلا وصفٍ قانوني، ومناطق غير معرفة دولياً، فهي ليست محتلة وليست جزءًا من الكيان، ولا هي دولة ذات سيادة ولا هي أرضٌ حرة تخضع للقوانين الدولية، وهي لا تملك جيشاً ولكن عندها عقيدة الجيش وآليات عمله، ولهذا فهي تنطلق في نظرتها لاحتكار العمل فيه واعتقادها بالتخصص دون غيرها من اعتباراتٍ سياسية، وقواعد فقهية وقانونية، وترى كلٌ منها أنها تعمل بموجبها، وتطبق القانون الإسرائيلي بمقتضاها.
الموساد الإسرائيلي وهو جهاز الاستخبارات الخارجية، والذراع الأمني الإسرائيلي الطويل الذي يعمل خارج حدود الكيان الصهيوني، ويشرف على اختراق الدول والتجسس على الحكومات، ويزرع العملاء الدوليين ويوظف الجواسيس الكبار، ويتنصت على مكالمات الدول، ويتابع سياستها الرسمية، ويقوم بتنفيذ مهامٍ أمنية في الساحات الخارجية، يرى أن قطاع غزة ساحةً خارجية، وأنه كيانٌ معادي، بعد أن أعلنت الحكومة الإسرائيلية اعتباره كياناً معادياً بعد انسحابها الأحادي الجانب منه، إذ شرعت منذ ذلك الحين بالتعامل معه على أنه كيانٌ كامل، تشرف عليه حكومة وتدير شؤونه سلطة، وله حدوده وعليه التزامات، وتفصله عنه بواباتٌ ومعابر، ويلزم الدخول منه إلى الكيان تأشيراتُ دخولٍ مسبقة، وموافقاتٌ أمنية منسقة، لهذا فهو يرى أن القطاع ساحته، وهو ملعبه، وعلى الجميع احترام تخصصه.
أما (الشين بيت) وهو جهاز الأمن الداخلي الذي يشرف على الأمن العام داخل حدود الكيان الصهيوني كله، فإنه يعتبر أن قطاع غزة يدخل ضمن صلاحياته، وأنه لم ينسلخ أمنياً عن كيانه، وأنه ما زال يرتبط به عضوياً وأمنياً وسياسياً، وأنه يشكل ساحةً داخلية، لا تنفصل عن المركز ولا تبتعد عنه، وأن القرار السياسي الذي أصدرته حكومته بأنه كيانٌ معادي لم يكن إلا شعاراً أو أملاً ورغبة، إلا أن الحقائق على الأرض ما زالت تشير إلى أن قطاع غزة يتبع أمنياً الأمن الداخلي، ويدخل ضمن صلاحيات (الشين بيت)، الذي لا يشك للحظةٍ واحدةٍ أنه قد خرج عن دائرة صلاحياته، أو أنه لا يخضع لسلطاته، فهو الذي يزرع فيه العملاء ويتصل بهم، ويجمع منهم المعلومات، ويصدر إليهم الأوامر، ويكلفهم بالمهام الأمنية الداخلية.
أما جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، الذي يتبع قيادة الأركان الإسرائيلية، ويشرف على عمله رئيس الأركان ووزير الدفاع، فإنه يرى بالاستناد إلى تدخلات الجيش الإسرائيلي وعملياته اليومية داخل القطاع، التي تبدو أنها عملياتٌ موضعية، تعالج قضايا آنية، وتتدخل حسب الحدث ووفق الظرف، بناءً على قراراتٍ واضحة من رئاسة الأركان، وقائد المنطقة الجنوبية وفقاً للتقسيمات العسكرية الإسرائيلية، التي تقسم فلسطين المحتلة إلى ثلاثة مناطق عسكرية، هي الجنوبية والشمالية والوسطى، حيث يتبع قطاع غزة المنطقة الجنوبية، فإنه يرى أن قطاع غزة يتبع تخصصاته، ويدخل ضمن صلاحياته، إذ يوجد في قطاع غزة جيشٌ معادي مقاتل، ويمتلك أسلحةً خطيرة، وعنده إمكانياتُ جيشٍ كبيرة، الأمر الذي يوجب مواجهته بجيشٍ آخر، يوازيه ويماثله، ويصده ويمنعه.
ما زالت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الثلاثة متضاربة ومتنازعة، وتشهد تنافساً وتصادماً، وتعاني من الاضطراب والتناقض، رغم مساعي وزير الأمن الإسرائيلي المستقيل (يتسحاق أهرونوفيتش) للتوفيق والتنسيق بينها، وتوزيع العمل وتحديد الصلاحيات بينها في القطاع، ورسم الأولويات وبسط الأخطار، لئلا يضرب العمل الأمني فيه، نظراً للسطوة الكبيرة التي تمارسها حركة حماس، وهي السلطة الفعلية في قطاع غزة، على الشبكات الأمنية العاملة فيه لصالح المخابرات الإسرائيلية.
حيث استطاعت أجهزة أمن حماس أن توجه ضرباتٍ موجعة إلى الشبكات القديمة والجديدة، التي شكلتها أجهزة المخابرات، وعملت سنين طويلة على تنظيم عملها وتطويره، واستفادت من جهودها كثيراً، وأحبطت بواسطتها الكثير من العمليات، وتمكنت من الوصول إلى الكثير من الأسرار التي ساعدتها على تصفية الخطرين واعتقال المطلوبين.
الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الثلاثة ترى أن عملها في السنوات الأخيرة قد شل إلى درجة كبيرة، ولم يعد مجدياً كثيراً، نتيجة للملاحقات الأمنية الحثيثة والجادة التي تمارسها أجهزة أمن حماس، التي استطاعت تفكيك أغلب المجموعات، وكشفت الكثير من الخطوط، فضلاً عن قيامها بمحاكمة وإعدام العشرات من المتعاونين مع المخابرات الإسرائيلية، الأمر الذي دفع بالعديد من العملاء إلى تسليم أنفسهم خوفاً من المصير الذي ينتظرهم، وتسليم ما لديهم من المعلومات طمعاً في العفو والنجاة، والكف عن التعاون مع الجانب الإسرائيلي وإعلان التوبة والبراءة منه، الأمر الذي عقد وصعب توظيف عملاء جدد.
بل إن بعض العملاء قد أضروا بالمخابرات الإسرائيلية عندما قاموا بكشف آليات عمل المخابرات، وفضح عملائها، وتسليم أدواتها، بعد أن اعترفوا بكل المعلومات التي قاموا بتقديمها إلى الجانب الإسرائيلي، إذ شعر هؤلاء العملاء أنهم إن سلموا أنفسهم، وتعاونوا مع أجهزة أمن حماس، مستفيدين من إعلانات البراءة والتوبة، فإنهم قد ينجون من الإعدامات الميدانية، أو تلك التي تتم بموجب محاكماتٍ رسمية..
وقد اعترف العديد من المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، في معرض دعوتهم إلى وقف حالة التنافس بين الأجهزة الأمنية، وضرورة التنسيق فيما بينها لتطوير عملها، والنهوض بمستواها، والعودة إلى ماضيها الناجح، أن أيديهم قد كفت، وأن عيونهم قد فقأت، وأن ذراعهم الأمني الطويل في قطاع غزة قد قطع، وأنهم باتوا يتوقعون الخطر من غزة كل يومٍ، بعد أن غاب الحراس، وسكنت الأجراس عن الدق.
بيروت في 12/1/2015
مصطفى يوسف اللداوي
كاتب و باحث فلسطيني