الهجوم على السنة نشأته وتطوره (1-3)

منذ 2015-01-13

لقد كان العرب قبل مجيء الإسلام ونبيه الكريم قبائل متنازعين، وأعداء متقاتلين، لا تجمعهم غاية، ولا يوحدهم هدف، فامتن الله عليهم بهذا الدين، فألف به بين القلوب، ووحد به بين الصفوف، وجعلهم به إخوانًا متحابين، متعاونين متناصرين، إن غاب أحدهم تفقدوه، وإن افتقر واسوه، وإن احتاج أعانوه، وإن مرض عادوه، وإن مات شيعوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله تعالى ممتنًا ومذكرًا بهذا الواقع وتلك الحقيقة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1)، ويقول تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2).

 قال ابن كثير: "ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم، وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، واستشكرهم فأطاعوه، وامتثلوا جميع ما أمرهم. قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذلَّ الناس ذلاً، وأشقاه عيشًا، وأجوعه بطونًا، وأعراه جلودًا، وأبينه ضلالًا، من عاش منهم عاش شقيًا، ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله"(3).

 ولم يقبض الله تعالى نبيه إليه إلا بعد أن أكمل الله له ولأمته هذا الدين، فأنزل عليه قبل وفاته بأشهر في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4). فكان كمال الدين من نعم الله العظيمة على هذه الأمة، ولذا كانت اليهود تغبط المسلمين على هذه الآية.

روى الشيخان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5). قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: "أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدًا"(6).

 وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك هذه الأمة على طريقة واضحة، لا ينحرف عنها إلا هالك.

 فعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء» (7)، وفي حديث العرباض: «... لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (8).

 كما قرر لهم صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم رسالة ربه كاملة، وما من خير إلا وقد دلهم عليه، وما من شر إلا وقد حذرهم منه، ففي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم» (9).

وكان رأس الخير الذي دل الأمة عليه ووصى به الاعتصام بالكتاب والسنة ففيهما الهداية والنجاة، قال صلى الله عليه وسلم: «إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم» (10).

وقد استجاب الصحابة الكرام لهذه الوصية، فكانوا أعظم الناس تمسكًا بالشرع، والوقوف عند النصوص، لأنهم أدركوا هذه المعاني، فعرفوا أن الدين قد كمل فلا يحتاج إلى زيادة، وأن الشريعة استبانت ووضحت فلا تحتاج إلى بيان، وإنما الأمر في التسليم والانقياد، فكانوا كما وصفهم ابن مسعود رضي الله عنه: "خير هذه الأمة: أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا"(11).

وما زال الناس على هذا الأمر حتى عصفت بهم الأهواء، وتلاعبت بهم الآراء، وانحرفت بهم السبل، وكان الشر الذي حذر الله منه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} {} (12).

قال ابن كثير: "والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفًا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وَكَانُوا شِيَعًا أي: فرقًا، كأهل الملل والنحل -وهي الأهواء والضلالات- فالله قد برأ رسوله مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل: من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات، وآراء وأهواء، والرسل برآء منها"(13).

----------------------

(1) سورة آل عمران:103.

(2) سورة الأنفال:26.

(3) عمد التفسير: (2/ 115، 116 ).

(4) سورة المائدة:3.

(5) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه (45) وصحيح مسلم، كتاب التفسير (3017).

(6) تفسير ابن كثير ( 2 / 12 ).

(7) أخرجه ابن ماجه، المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: 5.

(8) أخرجه أحمد (4/126) وصححه الألباني هو وسابقه بمجموع طرقه في ظلال الجنة. انظر: ظلال الجنة مع كتاب السنة لابن أبي عاصم ص26 ( 47، 48، 49 ).

(9) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول (1844).

(10) أخرجه الحاكم، كتاب العلم، باب خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ( 318 )، وقال: في إسناده عكرمة واحتج به البخاري، وابن أبي أويس واحتج به مسلم، وسائر رواته متفق عليهم، ثم قال: وله شاهد من حديث أبي هريرة، وأخرجه في الموضع السابق، ووافقه الذهبي وقال وله أصل في الصحيح.

(11) جزء من أثر رواه البغوي عن ابن مسعود في شرح السنة (1/214).

(12) سورة الأنعام:159.

(13) عمدة التفسير (1/845).