إن لله جنودا منها البراكين

منذ 2015-01-21

وَإِنَّ هَذِهِ الغُيُومَ المُتَرَاكِمَةَ الَّتي تَملأُ الجَوَّ عَلَى ارتِفَاعَاتٍ هَائِلَةٍ، لَتُذَكِّرُنَا بِالدُّخَانِ الَّذِي يَبعَثُهُ اللهُ قَبلَ قِيَامِ السَّاعَةِ: (فَارتَقِبْ يَومَ تَأتي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغشَىَ النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وَإِنَّ عَجزَ القَارَّةِ الأَورُبِّيَّةِ وَذُهُولَهَا مِمَّا وَقَعَ، وَتَسَاؤُلَ الجَمِيعِ عَمَّا حَدَثَ وَوُقُوفَهُم مَبهُوتِينَ مُتَحَيِّرِينَ، إِنَّهُ لَيُذَكِّرُنَا بِعَجزِ الإِنسَانِ عِندَ قِيَامِ السَّاعَةِ: (إِذَا زُلزِلَتِ الأَرضُ زِلزَالَهَا * وَأَخرَجَتِ الأَرضُ أَثقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا).

الخطبة الأولى:

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تعالى - وَأَطِيعُوهُ، وَامتَثِلُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَقِفُوا عِندَ حُدُودِهِ وَخَافُوهُ (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ).

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، في جَزِيرَةٍ نَائِيَةٍ في شَمَالِ المُحِيطِ الأَطلَسِيِّ، وَبَينَمَا النَّاسُ في حَيَاتِهِم غَادُونَ رَائِحُونَ، وَدُونَ أَيِّ نُذُرٍ أَو مُقَدِّمَاتٍ، يَثُورُ بُركَانٌ صَغِيرٌ مِن تَحتِ نَهرٍ جَلِيدِيٍّ، لِيَنفُثَ كَمِّيَّاتٍ هَائِلَةً مِنَ الرَّمَادِ وَالغُبَارِ، تُغَطِّي السَّمَاءَ في قَارَّةِ كَامِلَةٍ أَو تَكَادُ، فَيَفزَعُ النَّاسُ لِذَلِكَ وَيَرتَبِكُونَ، وَتَتَوَقَّفُ حَرَكَةُ الطَّيَرَانِ وَتَجثُمُ الطَّائِرَاتُ، وَتُغلَقُ المَطَارَاتُ وَتُؤَجَّلُ الرِحلاتُ، وَتَخسَرُ الشَّرِكَاتُ مَلايِينَ الدُّولارَاتِ، وَتَتَقَطَّعُ السُّبُلُ بِالمُسَافِرِينَ، وَتَتَحَوَّلُ صَالاتُ المَطَارَاتِ إِلى مَهَاجِعَ للمُنتَظِرِينَ، فَضلاً عَن خَسَائِرِ المَصَدِّرِينَ وَالمُستَورِدِينَ.

لَقَد غَدَت أَورُوبَّا بَينَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا مَعزُولَةً عَنِ العَالمِ الخَارِجِيِّ تَقرِيبًا، وَجَعَلَت تُوَاجِهُ أَكبَرَ تَعَطُّلٍ لِلنَّقلِ في تَارِيخِ طَيَرَانِهَا المَدَنِيِّ! فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! مَا أَعجَزَ الخَلقَ أَمَامَ قُدرَةِ خَالِقِهِم وَأَضعَفَهُم حِيَالَ قُوَّتِهِ! سَحَابُ بُركَانٍ وَاحِدٍ يُصِيبُ قَارَّةً كَامِلَةً بِالذُّعرِ وَالخَوفِ، وَيُقَيِّدُ حَرَكَتَهَا الجَوِّيَّةَ وَيُكَبِّدُ شَرِكَاتِهَا خَسَائِرَ اقتِصَادِيَّةً، فَكَيفَ لَو تَفَجَّرَت عِدَّةُ بَرَاكِينَ؟! كَيفَ لَو تَتَابَعَتِ الآَيَاتُ الأُخرَى وَتَوَالَتِ الكَوارِثُ الكُبرَى؟! إِنَّهُ لأَمرٌ يَستَدعِي التَّأَمُّلَ وَيَستَوجِبُ النَّظَرَ، وَيَدعُو إِلى التَّفَكُّرِ الطَّوِيلِ وَالاعتِبَارِ العَظِيمِ (ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ)، (لا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ).

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ البَرَاكِينَ جُندٌ مِن جُنُودِهِ - تعالى - يُرسِلُهَا عَلَى مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ مَتَى شَاءَ وَكَيفَ شَاءَ، إِنذَارًا وَوَعِيدًا وَتَخوِيفًا وَتَهدِيدًا (وَمَا نُرسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخوِيفًا)، (وَمَا يَعلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكرَى لِلبَشَرِ)، وَإِنَّ مِن جُنُودِ اللهِ المُسَلَّطَةِ هَذَا الرَّمَادُ البُركَانيُّ المُكَوَّنُ مِن جُزَيئَاتٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الزُّجَاجِ وَالصُّخُورِ المُفَتَّتَةِ، وَالَّتي تُهَدِّدُ مُحَرِّكَاتِ الطَّائِرَاتِ وَهَيَاكِلَهَا وَتُعِيقُ حَرَكَتَهَا، بَل وَيُؤَدِّي استِنشَاقُهَا إِلى تَمَزُّقِ النَّسِيجِ الرِّئَوِيِّ لِلإِنسَانِ، وَإِصَابَتِهِ بِالأَمرَاضِ التََنَفُّسِيَّةِ المُستَعصِيَةِ.

إِنَّهَا لآيَةٌ مِن آيَاتِ اللهِ - تعالى - أَرسَلَهَا تَذكِرَةً وَمَوعِظَةً لِلمُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ، وَتَخوِيفًا وَتَرهِيبًا لِلكَافِرِينَ وَالمُعرِضِينَ، فَالقُلُوبُ المُؤمِنَةُ تَتَّعِظُ وَتُخبِتُ وَتُنِيبُ لِرَبِّهَا، وَالقُلُوبُ الغَافِلَةُ لا يُهِمُّهَا سِوَى الخَسَائِرِ الاقتِصَادِيَّةِ، وَتُشغَلُ بِالمُتَابَعَةِ الإِعلامِيَّةِ وَمُرَاقَبَةِ البُركَانِ عَن رَبِّ البُركَانِ (لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بها وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعُونَ بها أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ). إِنَّ المُؤمِنَ وَقَد أُوتيَ قَلبًا حَيًّا وَحِسًّا مُرهَفًا لِيَتَأَثَّرُ بمِثلِ هَذِهِ الأَحوَالِ المُخِيفَةِ مُقتَدِيًا بِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي كَانَ إِذَا رَأَىَ رِيحًا أَو غَيمًا عُرِفَ ذَلِكَ في وَجهِهِ فَأَقبَلَ وَأَدبَرَ وَدَخَلَ وَخَرَجَ خَوفًا مِن نُزُولِ عَذَابٍ، وَيَخرُجُ في الكُسُوفِ فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ مُستَعجِلاً، يَخشَى أَن تَكُونَ السَّاعَةُ، يَفعَلُ ذَلِكَ لِرُؤيَةِ غَيمٍ غَالِبُ مَا يَأتي فِيهِ المَطَرُ وَالغَيثُ، أَو لِكُسُوفِ الشَّمسِ وَذَهَابِ بَعضِ ضَوئِهَا، فَكَيفَ لَو رَأَىَ أَعمِدَةَ الرَّمَادِ تَرتَفِعُ في الجَوِّ كَالسَّحَابِ؟!

كَيفَ لَو رَأَى الصَّهِيرَ النَّارِيَّ البُركَانيَّ الَّذِي تَبلُغُ دَرَجَةُ حَرَارَتِهِ أَلفًا وَمِئَتَي دَرَجَةٍ مِئَوِيَّةٍ؟! إِنَّهَا لَمِن قَسوَةِ القُلُوبِ وَعَمَى البَصَائِرِ أَن يَسمَعَ النَّاسُ وَيَرَونَ القَوَارِعَ الَّتي تَشِيبُ لها مَفَارِقُ الوِلدَانِ، وَتَتَوَالى عَلَيهِمُ الزَّوَاجِرُ الَّتي تَخشَعُ لها صُمُّ الجِبَالِ، ثُمَّ يَستَمِرُّوا عَلَىَ تَمَرُّدِهِم وَطُغيَانِهِم وَيَتَمَادَوا في غَيِّهِم وَعِصيَانِهِم، ويَظَلُّوا عَاكِفِينَ عَلَىَ شَهَوَاتِهِم مُتَّبِعِينَ أَهوَاءَهُم، غَيرَ عَابِئِينَ بِوَعِيدٍ وَلا مُنَصَاعِينَ لِتَهدِيدٍ، مُقتَصِرِينَ في تَفسِيرِ مَا حَدَثَ عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ أَمَرٍ طَبَعِيٍّ وَحَدَثٍ اعتِيَادِيٍّ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى غَفلَةٍ عَن مُدَبِّرِ الكَونِ وَجَهلٍ بِقُدرَةِ مُسَيِّرِهِ، وَإِلاَّ فَمَنِ الِّذِي يُجرِيهِ وِفقَ ذَلِكَ النِّظَامِ البَدِيعِ وَيُسَخِّرُهُ لِيَنتَفِعُوا بِهِ، ثُمَّ يُسَلِّطُهُ في لَحظَةٍ عَلَى مَن يَشَاءُ بِتَقدِيرِهِ وَتَدبِيرِهِ (مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، إِنَّ مَا حَدَثَ شَاهِدٌ عَظِيمٌ عَلَى قُدرَتِهِ  جَلَّ جَلالُه: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرضِ مِثلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمرُ بَينَهُنَّ لِتَعلَمُوَا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَد أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا)، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعجِزَهُ مِن شَيءٍ في السَّمَاوَاتِ وَلا في الأَرضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)، وَإِنَّ هَذِهِ البَرَاكِينَ وَالزَّلازِلَ لِتُذَكِّرُنا بِزَلزَلَةِ يَومٍ عَظِيمٍ، وَإِذَا كَانَ بُركَانٌ وَاحِدٌ يُحدِثُ في دُنيَا النَّاسِ مِنَ الفَزَعِ مَا يُحدِثُ، فَكَيفَ بِزَلزَلَةِ الأَرضِ كُلِّهَا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم إِنَّ زَلزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ * يَومَ تَرَونهَا تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعَةٍ عَمَّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَملَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ)، وَإِنَّ ذَلِكُمُ الغُبَارَ الَّذِي حَجَبَ الشَّمسَ عَن سَمَاءِ تِلكَ الدُّوَلِ، وَتَنَاثُرَ الرَّمَادِ في الهَوَاءِ، وَتُعَطَّلَ حَرَكَةِ الطَّيَرَانِ وَإِغلاقَ المَطَارَاتِ، إِنَّهُ لَيُذَكِّرُنَا بِتَكوِيرِ الشَّمسِ وَانكِدَارِ النُّجُومِ وَتَعَطُّلِ العِشَارِ (إِذَا الشَّمسُ كُوِّرَت * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَت * وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَت * وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَت) يَذهَبُ ضَوءُ الشَّمسِ وَتَتَنَاثَرُ النُّجُومُ، وَيَترُكُ الإِبِلَ أَصحَابُهَا عَلَى نَفَاسَتِهَا وَغَلائِهَا حَيثُ يَأتِيهِم مَا يُذهِلُهُم عَنهَا وَيَشغَلُهُم عَنِ الاهتِمَامِ بها.

وَإِنَّ هَذِهِ الغُيُومَ المُتَرَاكِمَةَ الَّتي تَملأُ الجَوَّ عَلَى ارتِفَاعَاتٍ هَائِلَةٍ، لَتُذَكِّرُنَا بِالدُّخَانِ الَّذِي يَبعَثُهُ اللهُ قَبلَ قِيَامِ السَّاعَةِ: (فَارتَقِبْ يَومَ تَأتي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغشَىَ النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وَإِنَّ عَجزَ القَارَّةِ الأَورُبِّيَّةِ وَذُهُولَهَا مِمَّا وَقَعَ، وَتَسَاؤُلَ الجَمِيعِ عَمَّا حَدَثَ وَوُقُوفَهُم مَبهُوتِينَ مُتَحَيِّرِينَ، إِنَّهُ لَيُذَكِّرُنَا بِعَجزِ الإِنسَانِ عِندَ قِيَامِ السَّاعَةِ: (إِذَا زُلزِلَتِ الأَرضُ زِلزَالَهَا * وَأَخرَجَتِ الأَرضُ أَثقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا).

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ  أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاعلَمُوا أَنَّ مَا أَصَابَ النَّاسَ وَمَا يُصِيبُهُم إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ طُغيَانِهِم وَعِصيَانِهِم، (وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيَكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ)، فَهِيَ سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ مَاضِيَةٌ، مَا كَثُرَتِ المَعَاصِي وَارتُكِبَتِ الكَبَائِرُ وَالمُوبِقَاتُ، وَلا شَاعَتِ الفَوَاحِشُ وَاستُسِيغَتِ المُخَالَفَاتُ وَالمُنكَرَاتُ، وَلا انتَشَرَ الظُّلمُ وَالقَتلُ وَعَمَّ الطُّغيَانُ، إِلاَّ نَزَلَتِ العُقُوبَاتُ وَكَثُرَتِ المَصَائِبُ العَامَّةُ، مِنَ الأَعَاصِيرِ المُهلِكَةِ وَالفَيَضَانَاتِ المُغرِقَةِ، وَالزَّلازِلِ المُدَمِّرَةِ وَالبَرَاكِينِ المُحرِقَةِ، وَالحُرُوبِ الطَّاحِنَةِ وَالأَمرَاضِ الفَتَّاكَةِ، وَالطَّوَاعِينِ العَامَّةِ وَالآفَاتِ القَاضِيَةِ، وَالنَّقصِ في النُّفُوسِ وَفَسَادِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، مِمَّا يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ العِبَادَ وَيُذَكِّرُهُم بِقُوَّتِهِ وَسَطوَتِهِ (ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بما كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ)، وَلَيسَت هَذِهِ بِآخِرِ الكَوارِثِ الَّتي سَتُصِيبُ مَن يُعرِضُ عَنِ اللهِ وَيَتَنَكَّبُ المَنهَجَ الحَقَّ، وَإِنَّ لِلَّذِينَ كَفَرُوَا وَطَغَوا في البِلادِ لأَمثَالَهَا (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثلَ ذَنُوبِ أَصحَابِهِم فَلا يَستَعجِلُونِ)، (وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بما صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَو تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دَارِهِم حَتَّى يَأتيَ وَعدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ)، وَهَكَذَا كُلَّمَا طَغَىَ الإِنسَانَ وَتَكَبَّرَ في الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَتَجَبَّرَ، وَادَّعَى الوُصُولَ لأَعلَىَ دَرَجَاتِ الكَمَالِ وَالاستِغنَاءِ عَن خَالِقِهِ، فَإِنَّ اللهَ يَبعَثُ لَهُ مَا يُبَيِّنُ ضَعفَهُ وَيُثبِتُ عَجزَهُ، وَيَدُلُّهُ عَلَى فَقرِهِ إِلى خَالِقِهِ وَحَاجَتِهِ إِلى مَولاهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذهِبْكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ * وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَىَ وَإِنْ تَدعُ مُثقَلَةٌ إِلىَ حِملِهَا لا يُحمَلْ مِنهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربىَ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ).

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ  - تعالى - حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَومِ لِقَاهُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، كَثِيرًا مَا يَتَبَجَّحُ الغَربُ وَأَتبَاعُهُ وَالمُعجَبُونَ بِهِ مِن بَنِي جِلدَتِنَا بما وَصَلَت إِلَيهِ تِلكَ الدُّوَلُ مِن عِلمٍ وَتِقنِيَةٍ، وَتَرَاهُم في المُقَابِلِ يُزرُونَ عَلَى مَن عَدَاهُم وَيَتَنقَّصُونَ غَيرَهُم!! وَلَكِنْ يَأبى اللهُ إِلاَّ أَن يُرغِمَ أَنفَ هَذِهِ الحَضَارَةِ المَادِّيَّةِ وَإِن هِيَ تَكَبَّرَت وَشَمَخَت.

فَمَاذَا صَنَعَت تِلكَ الدُّوَلُ الََّتي تُسَمَّى بِالمُتَقَدِّمَةِ؟ أَينَ ذَهَبَت جُيُوشُهُم وَقُوَّاتُهُم أَمَامَ هَذَا الجُندِيِّ مِن جُنُودِ اللهِ؟! هَلِ استَطَاعُوا مَنعَهُ أَو قَدِرُوا عَلَى إِيقَافِهِ؟ أَينَ مَا وَصَلُوا إِلَيهِ مِن مُختَرَعَاتٍ ومُكتَشَفَاتٍ؟! أَينَ مَا شَغَلُوا بِهِ العَالَمَ مِن مَبَاحِثَ وَدِرَاسَاتٍ؟! أَينَ إِعدَادَاتُهُم وَتِرسَانَاتُهُم؟ هَل دَفَعَت للهِ أَمرًا أَو عَطَّلَت قَدَرًا؟ هَل رَدَّت بَلاءً أَو مَنَعَت عَذَابًا؟! في لَحَظَاتٍ مَعدُودَةٍ وَبِحَرَكَةٍ مِنَ الأَرضِ يَسِيرَةٍ، يَنقَلِبُ الأَمنُ خَوفًا وَيُصبِحُ الهُدُوءُ انزِعَاجًا، وَتَضِيقُ الصُّدُورُ وَتَعبِسُ الوُجُوهُ، وَتَتَحَوَّلُ المَكَاسِبُ إِلى خَسَائِرَ، وَتَقِفُ قَارَّةٌ بِأَكمَلِهَا عَاجِزَةً أَمَامَ هَذِهِ الكَارِثَةِ، لِيُطلِعَهُمُ اللهُ - عز وجل -  عَلَى مَدَى ضَعفِهِم وَقِلَّةِ حِيلَتِهِم، وَلِيَعلَمُوَا صِدقَ قَولِهِ - تعالى -: (قُلْ إِنَّ الأَمرَ كُلَّهُ للهِ)، وَقَولِهِ: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)، وَقَولِهِ: (وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلمِ إِلاَّ قَلِيلاً)، وَقَولِهِ: (أَمَّن هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُم يَنصُرُكُم مِن دُونِ الرَّحمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ في غُرُورٍ)، اغتَرُّوا وَخُيِّلَ إِلَيهِم أَنَّهُم في أَمَانٍ وَحِمَايَةٍ وَاطمِئنَانٍ!! وَظَنُّوا أَنَّهُم مَلَكُوا الجَوَّ وَبَلَغُوا في مَجَالِ الطَّيَرَانِ شَأنًا عَظِيمًا، وَإِذْ ذَاكَ أَتَاهُمُ البُركَانُ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ وَهَجَمَ عَلَيهِم عَلَى حِينِ غَفلَةٍ، فَأَصَابَ طَيَرَانَهُم بِالعَجزِ وَأَلبَسَهُمُ الخَسَارَةَ الفَادِحَةَ (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخرُفَهَا وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيلاً أَو نهَارًا)، وَمَعَ أَنَّهُ بِمَقدُورِ البَشَرِ في أَحيَانٍ كَثِيرَةٍ التَّنَبُّؤُ بِهَذِهِ الآَيَاتِ الكَونِيَّةِ قَبلَ وُقُوعِهَا، إِلاَّ أَنَّ وُقُوعَ مِثلِ هَذِهِ الحَوَادِثِ وَالفَواجِعِ تُثبِتُ يَومًا بَعدَ يَومٍ قُصُورَ البَشَرِ وَضَعفَ آلَتِهِم، سَوَاءٌ في الرَّصدِ وَالتَّحلِيلِ وَتُوُقُّعِ الأَزَمَاتِ، أَو في إِكمَالِ الاستِعدَادَاتِ وَإِتمَامِ الاحتِيَاطَاتِ، أَو في التَّصَدِّي لها وَتَخفِيفِ أَثَرِهَا.

إِنَّهُ قَدَرُ اللهِ وَاقِعٌ لا مَحَالَةَ، وَمَشِيئَتُهُ نَافِذَةٌ وَلا بُدَّ، وإِذَا نَزَلَ أَمرُهُ فَلا تَنفَعُ مَعَاهِدُ الأَبحاثِ حِينَئِذٍ وَلا الدِّرَاسَاتُ، وَلا تَمنَعُ مِنهُ أَجهِزَةُ التَّحَكُّمِ وَلا مَرَاكِزُ المَعلُومَاتِ، وَلا يُغنِي حَذَرٌ مِن قَدَرٍ، وَ(للهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ)، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لَيسَ لِلإِنسَانِ مَهمَا عَظُمَت قُوَّتُهُ وَامتَدَّت سُلطَتُهُ، أو بَلَغَ عِلمُهُ وَوَصَلَ ذَكَاؤُهُ، إِلاَّ اللُّجُوءُ إِلى خَالِقِهِ وَالانطِرَاحُ بَينَ يَدَيهِ، وَإِخلاصُ الدُّعَاءِ لَهُ وَتَوحِيدُهُ وَصِدقُ التَّوَجُّهِ إِلَيهِ (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا)، فَاتَّقُوا اللهَ  عِبَادَ اللهِ  فَإِنَّ مَا يُصِيبُنَا في السَّنَوَاتِ المُتَأَخِّرَةِ مِن شُحِّ الأَمطَارِ وَغَورِ الآبَارِ، وَتَوَالي أَيَّامِ القَحطِ وَالغُبَارِ، لَهُوَ نَذِيرٌ لَنَا وَتَذكِيرٌ، فَالتَّوبَةَ التَّوبَةَ، فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَ اللهِ وَلا أَحَدٍ مِن خَلقِهِ إِلاَّ العَمَلُ الصَّالحُ (مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ).


عبد الله بن محمد البصري