أسير الصوت الملعون

منذ 2015-01-28

في ريف إحدى البلاد الإسلامية، كانت هناك أسطورة شائعة إلى عهد قريب، تقول بأن هناك امرأة تخرج ليلًا يسمونها "النداهة"، تنادي على من يسير وحده ليلًا، فتسلب عقله بصوتها، ويظل مشدوهًا فاقد العقل، لكن هناك حقيقة تقول؛ بأن صوتًا ملعونًا يتسلل إلى بعض الناس، فيأسرهم، ويثير أشجانهم، ويتلاعب بمشاعرهم، ويميت ضمائرهم، فيتجرعون عبره السموم، ويقولون هل من مزيد؟!

في ريف إحدى البلاد الإسلامية، كانت هناك أسطورة شائعة إلى عهد قريب، تقول بأن هناك امرأة تخرج ليلًا يسمونها "النداهة"، تنادي على من يسير وحده ليلًا، فتسلب عقله بصوتها، ويظل مشدوهًا فاقد العقل، لكن هناك حقيقة تقول؛ بأن صوتًا ملعونًا يتسلل إلى بعض الناس، فيأسرهم، ويثير أشجانهم، ويتلاعب بمشاعرهم، ويميت ضمائرهم، فيتجرعون عبره السموم، ويقولون هل من مزيد؟!

صوت ملعون:

إنه صوت الغناء والموسيقى، الذي حرمه الله تبارك وتعالى، ذلك الصوت الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة)) [صححه الألباني، (3527)]، ذلك الصوت الذي صار ملاذ الشباب عند أي ضائقة، ورفيقهم في لهوهم ومرحهم، فعلى تلك النغمات يحاول إفراغ أشجانه، ويعيش على أصدائها قصة الحب المعهودة، أو يهزه هزًا فيطرب كيانه وتتراقص جوارحه، فهذا الصوت الملعون قد أسره أسرًا، وسلب لبه، تمامًا كما تفعل "النداهة" في الأسطورة، وما كان لعنه إلا لأنه بريد الفواحش، والمتسلط على القلوب ليخرج منها أنوار القرآن، فيظلم القلب، فإذا أظلم القلب؛ صار صاحبه من المعرضين: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124].

 

كلمة الإسلام:

مهما تحاول من إطلاق الكلمات، التي تبرر بها استماعك للغناء والموسيقى، فكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - هما فصل ما بيننا، ولن نستمع بمقتضاهما إلى من يقول أن الموسيقى والغناء ترويح، وبهجة، وتنمية للذوق، والعاطفة...، فإننا كمسلمين لابد وأن نعرض أعمالنا، وما اختلفنا فيه على الكتاب والسنة، فما كان مباحًا فيهما أبحناه، وما كان محظورًا منعناه، فاستمع يرحمك الله إلى قول الحق- تبارك وتعالى -: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان: 6].

جاء في تفسير "ابن كثير"، عن "أبي الصهباء البكري"، أنه سمع "عبد الله بن مسعود" - رضي الله عنه -، وهو يُسأل عن هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ فقال "عبد الله بن مسعود": (الغناء والله الذي لا إله إلا هو) يرددها ثلاث مرات، وكذا قال "ابن عباس"، و"جابر"، و"عكرمة"، و"سعيد بن جبير"، و"مكحول"، و"ميمون بن مهران"، و"عمرو بن شعيب"، و"علي بن بذيمة"، وقال "الحسن البصري" - رحمه الله -: (نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير).

أفلا يكفيك كل هؤلاء الأئمة، وأهل التفسير من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، في تفسير هذه الآية وحملها على تحريم الغناء؟!! وإلى هذا ذهب كثير غيرهم في الاستدلال بهذه الآية، في تحريم الغناء والموسيقى.

وقال - تعالى -: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء: 64].

جاء في تفسير الجلالين: وَاسْتَفْزِزْ: استخف، ِصَوْتِكَ: بدعائك بالغناء والمزامير وكل داع إلى المعصية، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كل داع إلى معصية، قال ابن القيم: (والغناء من أعظم الدواعي إلى معصية الله)، عن مجاهد أنه قال: (صوت الشيطان الغناء والمزامير)، وقال القرطبي في تفسيره: (في الآية ما يدل على تحريم المزامير، والغناء، واللهو.. وما كان من صوت الشيطان، أو فعله، وما يستحسنه؛ فواجب التنزه عنه).

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ ـ يَعْنِى الْفَقِيرَ ـ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُوا ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً، وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [رواه البخاري في صحيحه]، نقل القرطبي - رحمه الله - عن الجوهري - رحمه الله - أن المعازف الغناء.

وفي الحديث دليل على تحريم آلات العزف والطرب من وجهين؛ أولهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يستحلون"، فإنه صريح بأن المذكورات ومنها المعازف هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم، ثانيًا: قرن المعازف مع ما تم حرمته؛ وهو الزنا والخمر والحرير، ولو لم تكن محرمة ـ أي المعازف ـ لما قرنها معها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فدل هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها).

فهذه بعض أدلة تحريم الغناء والموسيقى، فلقد قال دين الإسلام كلمته فيها، وعلى المنتسبين له أن يقولوا: "سمعنا وأطعنا".

 

قالوا عن الغناء:

في المسند أن ابن عمر - رضي الله عنهما -، خرج يومًا في حاجة، فمر بطريق فسمع زمارة راع، فوضع أصبعيه في أذنيه حتى جاوزه، فقل لي بالله عليك، أزمارة راع أولى بالتحريم والترك، أم هذا الغناء الذي يتغنج فيه المطرب والمطربة، فيفتن القلوب، ويشغل الأرواح عن علام الغيوب؟!

وقال عمر بن عبد العزيز لأبنائه: (أحذركم الغناء، أحذركم الغناء، أحذركم الغناء؛ فما استمعه عبد؛ إلا أنساه الله القرآن)، وكتب إلى مأدب ولده: (ليكن أول ما يعتقدون من أدبك، بغض الملاء التي مبدأها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن).

وجاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -، فقال: (يا ابن عباس، أرأيت الغناء، أحلال هو أم حرام؟)، رجل يسأل عن غناء الأعراب في البوادي، الذي ليس فيه معازف، و ليس فيه تصوير، ولا "فيديو كليب"، ولا لباس عار، ولا قصات فاتنة، ولا رقصات ماجنة، غناء الأعراب في البدو، (هل يجوز يا ابن عباس؟)، (هل هو حلال أم حرام؟)، فقال ابن عباس: (أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟)، فقال الرجل: (يكون مع الباطل)، فقال ابن عباس: (فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!، اذهب فقد أفتيت نفسك).

أما أبو بكر فكان يسمي الغناء مزمار الشيطان، وسأل رجل الإمام مالك عن الغناء، فقال: (ما يفعله عندنا إلا الفساق)، وسُئل الإمام أحمد عن الغناء فقال: (الغناء ينبت النفاق في القلب، ولا يعجبني)، و الشافعي سماه دياثة، وأبو حنيفة أفتى بالتحريم.

 

نظرة في الخواتيم:

يؤكد أهل العلم على أن الإصرار على المعاصي، وعدم التوبة عنها، من أعظم أسباب سوء الخاتمة؛ وذلك لأن جميع ما ألفه الإنسان في حياته يعود ذكره عند الوفاة، فإن كان الغالب عليه طاعة الله، تذكر الطاعة عند موته، واشتاق إليها، وربما فعلها، فينال حسن الخاتمة، وإن كان الغالب عليه الإصرار على المعاصي، يتذكر المعصية عند وفاته، فيكون في قلبه اشتياق إليها، وربما فعلها، فيختم له بخاتمة الأشقياء.

وقد شهد الواقع على كثير من القصص الواقعية، التي تفيد سوء الخواتيم لمستمعي الغناء، فمنها ما ذكره ابن القيم - رحمه الله -: (أن رجلًا من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة، فلما اشتد به نزع روحه، قيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يردد أبياتًا من الغناء، فأعادوا عليه التلقين: يا فلان، قل لا إله إلا الله؛ فجعل يردد الأغاني، فلما ثقل لسانه عن ترديد الكلمات، جعل يردد الألحان، يقول: تنتنا، تنتنا، تنتنا، حتى خرجت روحه من جسده، وهو إنما يلحن ويغني).

وفي عصرنا هذا يحكي أحد العاملين في أمن الطرق قائلًا: (كانت مهنتي الأمن ومراقبة السير، تعودت على مشاهدة الحوادث والمصابين، ذات يوم، كنت في دورية أراقب الطريق، معي أحد الزملاء، و فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي، التفتنا فإذا سيارتان قد ارتطمتا وجهًا لوجه بشكل مروع، أسرعنا لإنقاذ المصابين.

حادث لا يوصف، في السيارة الأولى شخصان في حالة خطيرة، أخرجناهما من السيارة، والدماء تسيل منهما، وهما يصيحان ويتأوهان، وضعناهما على الأرض، أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية؛ وجدناه قد فارق الحياة، عدنا للشخصين فإذا هما في حالة احتضار، هب زميلي يلقنهما الشهادة، اقترب منهما يقول: "قولا لا إله إلا الله، لا إله إلا الله"، وهما يإنان ويتأوهان، وصاحبي يردد: "لا إله إلا الله"، وهما لا يستجيبان!!

حتى إذا بدأ بهما النزع، واشتد شهيقهما، بدآ يرددان كلمات من الأغاني، لم أستطع أن أتحمل الموقف، بدأت أنظر إليهما وأنتفض، وصاحبي يكرر عليهما، يرجوهما "قولا لا إله إلا الله"، و هما على حالهما، حتى بدأ صوت الغناء يخف شيئًا فشيئًا، سكت الأول، تبعه الثاني، لا حراك، فارقا الحياة!

حملناهما إلى السيارة مع الميت الأول، أخذنا نسير بهؤلاء الموتى الثلاثة، صاحبي مطرق لا يتكلم، فجأة التفت إلي ثم حدثني عن الموت وحسن الخاتمة وسوئها، ثم وصلنا إلى المستشفى، وأنزلنا الموتى، ومضينا إلى سبيلنا، أصبحت بعدها كلما أردت أن أسمع الأغاني؛ برزت أمامي صورة الرجلين، وهما يودعان الدنيا بصوت الشيطان).

إلى متى؟!

ألا تخشى أيها المصر على الاستماع إلى الغناء والموسيقى أن يختم الله لك بخاتمة سوء؟!

هل تغامر وتقامر بمستقبلك الأبدي، وترضى بدخول النار من أجل الاستماع إلى ذلك الصوت الملعون.

أراك تقول: (كل ذلك من أجل ذنب صغير؟!).

أجيبك بأن بعض العلماء عرفوا الكبيرة: بأنها ما ورد الوعيد على فعلها، وقد كان في أول الآيات التي ذكرناها.

ثم إنك تنظر إلى صغر المعصية! فأين نظرك إلى عظم الخالق - جل وعلا -؟! وقد قال السلف - رحمهم الله -: (لا تنظر إلى صغر المعصية، وانظر إلى عظم من عصيت)، وقالوا: (لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار)!! أي أن الذنب الذي يحتقره الإنسان يصير كبيرة بعدم اكتراث العبد به والإقامة عليه!.

سمعنا وأطعنا:

إنه شعار المؤمنين حين يسمعون أوامر الله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51]، فليس لهم خيار إذا قضى الله أمرًا، إنما يستسلمون لأمر الله، وينقادون إليه، ويتحاكمون إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]، يقول ابن كثير حول هذه الآية: (يُقسم - تعالى -بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد؛ حتى يُحَكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن؛ فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة).

فليس لك أيها الحبيب بديلًا عن الانقياد لحكم الله، فإنك عبد لله أينما يوجهك سيدك تتوجه، وتنقاد لأمره ظاهرًا وباطنًا؛ فذاك دأب المؤمنين ومسلكهم.

قبل الندم:

سيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع  *** وعند الوزن ما خف أو ربـى

ويعلم ما قد كـان فيه حيـــاته  *** إذا حصلت أعماله كلها هبــا

دعــاه الهدى والغي من ذا يجيبه  *** فقال لداعي الغي أهلًا ومرحبـا

وأعرض عن داعي الهدى قائلًا له:  *** هواي إلى صوت المعازف قد صبى

يراع ودف بالغناء وراقـــص  *** وصوت مغني صوته يقنص الظبى

إذا ما تغنـى؛ فالظبــاء تجيبــه *** إلى أن تراها حوله تشبه الذبى

فيا آمري بالرشد، لو كـنت حاضرًا *** لكان تواري اللهو عندك أقرب

فالتوبة أيها الحبيب من هذا الجرم الذي يستهين به أكثر فاعليه، وعمِّر قلبك بالقرآن؛ فإنه لا يجتمع وكلام الشيطان في قلب أمريء، والجأ إلى ربك؛ يُذهب عنك رجس الشيطان، ويربط على قلبك، فلا ينفذ إليه إلا نور الإيمان، ويفك أسرك من قيد الصوت الملعون.

أهم المراجع:

تفسير ابن كثير.

إغاثة اللهفان، لابن القيم.

ألحان وأشجان، محمد العريفي.

النور الكاشف في بيان حكم الغناء والمعازف، أحمد بن حسين الأزهري.