من سيادة الأمة إلى هيمنة الشريعة

منذ 2015-01-29

فقد شهدت الساحة الفكرية المحلية هذه الأيام صراعاً مفتعلاً حول مسألة: "سيادة الشريعة" وهي مسألة أساسية محسومة في النظام السياسي الإسلامي، غبَّرت عليها بعض المقالات التي كتبت مؤخراً في بعض المواقع، صاحَبَها سجالات ما زالت متواصلة إلى الآن عبر الشبكات الاجتماعية تنبئ عن وجود إشكالات منهجية في العقلية التنويرية حول تقرير مبدأ هيمنة الشريعة، وإلزاماتها الشرعية.

الحمدُ لله الذي جعل شريعته مهيمنة على كل الشرائع، أمَّا بعد:

فقد شهدت الساحة الفكرية المحلية هذه الأيام صراعاً مفتعلاً حول مسألة: "سيادة الشريعة" وهي مسألة أساسية محسومة في النظام السياسي الإسلامي، غبَّرت عليها بعض المقالات التي كتبت مؤخراً في بعض المواقع، صاحَبَها سجالات ما زالت متواصلة إلى الآن عبر الشبكات الاجتماعية تنبئ عن وجود إشكالات منهجية في العقلية التنويرية حول تقرير مبدأ هيمنة الشريعة، وإلزاماتها الشرعية.

إنَّ من يتابع هذه السجالات يحزن أشد الحزن على الحماس الشديد من بعض المنتسبين للاستنارة في تقرير مثل هذه النظريات والدفاع عنها، وبالمقابل يفرح ويبتهج بشعور عامة طلبة العلم والإسلاميين الرافض لها، وقيام بعضهم في الرَّد والدفاع عن حياض الشريعة.

وفي تقديري أن هذه الانتقالات المتوالية في الخطاب التنويري غير مستغربة؛ ففي السابق ثاروا على خطاب الصحوة الإصلاحي، ثم صاروا يدعون لأسلمة الديمقراطية، والآن - وللأسف - ينقلون الطوب في بناء الجسر إلى العَلمانية، فاللهم رحماك!

ومساهمةً في هذه الحوارات جاءت هذه الأُطروحة موضحة بعض القضايا المنهجية التي وقع فيها من كتب في هذا الموضوع مقرراً: "أن سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة"، ولقد انتظمت هذه القضايا في ما يلي:

تصديرُ الحكم من خلال النظم الديمقراطية:

من الإشكالات في الطرح التصوري لهذه القضية أنها حاولت التفكير في السياسة الشرعية داخل برلمان الديمقراطية لا العكس، فعندنا الآن شريعة وقيم ديمقراطية، فبدلاً من أسلمة الديمقراطية (الشعار القديم) أصبح العكس (دَمَقْرَطة) الشريعة، وتطويعها لهذه النظم الديمقراطية، فأُخضِعت الشريعة بكاملها للنظم الديمقراطية، ومن ثمَّ بدأ بعده التكييف الشرعي، وحشد النصوص، فخرج هذا الرأي حسب هذه المنظومة "تطبيق الشريعة مقيد بموافقة الأكثرية!" بعد أن كانوا يقولون قبل زمن يسير "خيار الأكثرية مقيد بقطعيات الشريعة".

من هنا وقع أصل الإشكال؛ حيث أُخضعت الشريعة، وأصبحت هيمنتها وسيادتها تحت نظم هذا النظام، والسؤال البدهي هنا: السيادة أصبحت لمن؟ أصبحت للديمقراطية على حساب الشريعة؛ بحيث خُلط النظام الشرعي مع النظام الديمقراطي، وفي الوقت نفسه سُيِّد الديمقراطي على الشرعي في الاحتكام والتحاكم، فأصبح يسودها بنظمه، ويعطلها أو يعملها بآلياته!

أَعُرِف الآن لماذا انزعج بعض العلماء وطلبة العلم من هذه المقالات؛ لأنها رضيت أن تجعل الديمقراطية مهيمنة على الشريعة، تُخضِعُها للتصويت، وتلتزم بنتيجتها رفضاً أو قبولاً.

تأمل! بعض الإخوة ذكر أن سيادة الأمة لا يمكن أن تنبثق إلا عبر الاستفتاء وصناديق الاقتراع، والخيار الثاني الذي ذكره مسار التغلب الذي يختاره كثير من المعترضين، وأكثرهم بدون وعي!

ثم قال - لاحظ الحصر - خياران لا ثالث لهما، بعدها ذكر زبدة المقالة حسب تعبيره مرجحاً أن الأفضل والأضمن لإلزامية الشريعة أن نجعلها مرهونة بإرادة الأمة التي تتم عبر الاستفتاء وصناديق الاقتراع، أي: إمَّا أنكم ترهنون إلزامية الشريعة بالنظام الديمقراطي، وإلا - حتماً - ما لكم إلا خيار المتغلب؟ فالأستاذ نظر هنا للشريعة وإلزاماتها بنظارات الديمقراطية الملونة؛ حيث جعلها خاضعة للتصويت أولاً، ثم جعلها قابلة للرفض إن رفضتها الأكثرية ثانياً، وبعدها استبعد جميع الخيارات؛ فلا نظام شوروي، ولا نظام سياسي إسلامي راشد، ولا شيء؛ خياران لا ثالث لهما!!

هنا يقال بكل وضوح وقبل هذا التقرير: لا يُسلَّم لكم أصلاً إخضاع الشريعة لهذا النظام البشري الذي لم تعترف به الشريعة ولم تقره؛ (هناك حالات واقعية طارئة جاءت ليس للاعتراف به؛ بل للمصلحة، وتخفيف الشر، وهذا يحكمه الواقع على حسب الأحوال والأزمنة) لكن لماذا قلنا لا يُسلَّم بذلك؟ لأن هذه التشريعات ليست حقاً لنا أصلاً فهي حق خالص لله، والأمة هنا لا تملك أن تحل حراماً أو تحرم حلالاً، أو تبدل شرعاً بإخضاعها للتصويت أو بغيره، فهي مطالبة أصالةً بالتعبد لله بهذا الأمر لتظل الشريعة دائماً هي الحكم، وتظل الربوبية دائماً لله وحده الذي رضي لنا الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(آل عمران:85).

أين العَلمنة في هذه القضية؟

انحصر الخلاف والنقاش حسب تعبير بعض الإخوة على التصور الآتي: لو أن الأغلبية في بلد مسلم ما رفضوا الشريعة الإسلامية من خلال التصويت ما حكم فعلهم هذا؟

لا حظ هنا مسلمون يرفضون الشريعة!

بالله عليكم افتحوا دواوين العقيدة والفقه، وانظروا في حكمهم، قبل هذا وذاك ماذا يعني أن يخضع مجتمع مسلم "الشرع المنزَّل" للتصويت من أجل قبوله أو عدمه؟

أيضاً يأتي التساؤل نفسه عن الحاكم المسلم المأمور بإقامة شرع الله؟ هل يقال له: لا تقم شرع الله وأحكامه لأن إرادة الأمة رفضت ذلك، وهي مقدمة على الالتزام بتطبيق أحكام الإسلام، لا تمنع الربا، ولا الخمر، ولا الزنا؛ لأن إرادة الأمة مخالفة لذلك!

هنا وقع الإشكال في التقارب مع العَلمنة؛ حيث جُعلت السيادة في مجتمع مسلم للجهة العليا "الأمة" التي تعطي الشرعية - سواء للشريعة أو غيرها - فحيدت "الشريعة" تماماً عن سيادتها، وجعل مكانها "الأمة"، وهنا نص لابن تيمية يبين حساسية هذه المسألة وخطرها حيث يقول: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافراً ومرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نَزَلَ قوله - على أحد القولين -: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله"(مجموع فتاوى ابن تيمية 3/267).

هذا الحُكم من ابن تيمية لا يختلف علماء الشريعة فيه، ولذلك ذكر هو هنا اتفاق الفقهاء عليه، وهناك عدد من العلماء ذكر ذلك أيضاً بنصوص أخرى تؤدي إلى المعنى نفسه منهم: ابن حزم، وابن القيم، والشاطبي، وغيرهم.

إنَّ الذي يتأمل قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً)(الأحزاب:36) يلحظ أن شعار المفاصلة بارز في هاتين الآيتين بين القبول والرفض، حيث لا خيار، فقد نفى نفياً قاطعاً أي خيار، بل وأي تردد من قبل الحرية الشخصية فخيار "التصويت" منتفي تماماً هنا، بينما نسق العلمانية قد يشترط على الناس التصويت للشريعة وإلزاماتها لجعلها حاكمة ونافذة؛ من أجل أن تنال شرعيتها في التحاكم.

فالأمر - أيها الإخوة - أخطر بكثير من إعطاء الحرية لهذا الجموع المسلمة لرفض الشريعة أو قبولها، فالمسألة لها توابع ولوازم كثيرة وخطيرة على مستوى إيمان الفرد والأمة.

تحقيق المناط في النصوص المُستدل بها:

هنا صورة أخرى: إذا كان المجتمع كافراً، أو أكثريته كافرة، ورفضت الشريعة؛ فهذه مسألة مختلفة تماماً عن الأولى مرتبطة بشرط "القدرة والإمكان" كما نص عليه أهل العلم، فمن الخطأ أصلاً افتراض صورة لا يتحقق فيها شرط القدرة والإمكان ثم يعمم حكمها على مواضع القدرة والإمكان، وعلى الصورة السابقة يردُ بعض كلام العلماء الذين نقل عنهم البعض، وهنا من الخطأ أن تُخضع للنظم الديمقراطية أو الليبرالية بل تخضع لمنهاج سيد المرسلين في سيرته ومنهجه في تفاوت "الضعف والقوة" و"القدرة والعجز" كما يقرِّره علماء الشريعة كابن تيمية بقوله: "..وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصَّغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعلمون في آخر عمر رسول الله - -صلى الله عليه وسلم- -، وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة؛ لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام.

فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصبر، والصفح، والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأمَّا أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(الصارم المسلول، 244، دار الكتاب العربي).

من هذا النص الثمين يتبين أن أكثر النصوص التي اُستدل بها في تقرير هذه المسألة تُنزَّل على الواقع السابق الذي ذكره ابن تيمية، تُنزَّل على واقع المسلم الضعيف، أو الأقلية المسلمة الضعيفة في مجتمع كافر، أمَّا في حال القوة فلا خيار ولا إيمان لمن لم يتحاكم إلى شريعة الرحمن.

بعض الإخوة - مثلاً - استدل على ذلك بحال النجاشي: "وأنه كان ملكاً وبيده السلطة والقوة، ومع ذلك لم يُحاول أن يفرض تطبيق الشريعة بالإجبار"! انظر ماذا يقول علماء الشريعة من أمثال ابن تيمية عن هذا التقرير: "وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدِّ الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم، والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها"(منهاج السنة النبوية، 5/111،112،113) أظن أن الأمر هنا أوضح بكثير من التعليق عليه!

فالمقصود من هذه المسألة أن كثيراً من الآيات التي اُستدل بها لم يتحقق بها مناط الاستدلال؛ بل إن عدداً من المفسرين كالقرطبي وابن الجوزي وغيرهم ذكر أنها آيات مكيَّة نزلت قبل الهجرة، ومن ثمَّ فهي في واقع مجتمعي مختلف عما يراد أن يقرَّر له.

من وحي السجالات:

من المقالات التي طرحت ورقة وسمت (بالأجوبة..) على الاعتراضات، ومن خلال قراءتها لم يرَ الباحث فيها أي جواب، بل جاءت متممة لشرح فكرة سابقة، مع حصر الحقائق والإلزام بها، ولمز المخالفين بعدم الاستيعاب والفهم، والأولى مراعاة أصول المناظرة في أخذ اعتراضات المخالفين، والإجابة عليها، فهناك أكثر من (8) مقالات كتبت في الموضوع لم يتم نقاشها، ولا والإجابة على تساؤلاتها، بل اكتفى الكاتب باللجوء لمخرج "لم يفهمني أحد".

أيضاً بعض الإخوة ممن كتب أراد أن يقوي وجهته بحشد الأسماء، وبلمحة تذاكٍ جعل المعارضين في وجه المدفع أمام هذه الأسماء، وعند التدقيق لا تسليم بما قال، فهناك مثلاً أقوال للقرضاوي تخالف ما ذكر عنه كما ذكرها بعض المعترضين من المشايخ من مثل: "أحكام الإسلام القطعية لا مجال فيها لشورى، ولا يملك برلمان ولا حكومة إلغاء شيء منها لأن ما أثبته الله لا ينفيه الإنسان، وما نفاه الله لا يثبته الإنسان"(من كتابه فقه الدولة)، وكذلك الددو والقرني كلامهما له تفصيل مختلف، وفي شأن آخر، وليس المقصود هنا موافقة هؤلاء في الرأي؛ بل المقصود التأكد من مناط القول، إضافةً إلى عدم جعلهم سلطة في الخلاف أو الحوار مع المخالف فهم بحاجة لمن يحتج لهم.

وبعد؛ فإنَّ هيمنة الشريعة الغرَّاء على شؤون الحياة لا يعنى بها الإيمان القلبي فقط، بل هي هيمنة كاملة على كل شيء لا تقبل التجزء أو الخلط، هيمنة في القلب والعمل والتطبيق دلَّ عليها قوله - تعالى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(النساء:65) حيثُ نفى الإيمان بالشريعة بقسم عظيم (فلا وربك لا يؤمنون) حتى يتم التطبيق (حتى يحكموك)؛ بل جاء الأمر بالزيادة على هذا من خلال كامل التسليم، ومن امتلأ قلبه بذلك فلن يعطي لأحد كائناً من كان - لا فرد ولا أمة ولا مجلس - صلاحية "التشريع" وتحديد المشروعية.

فإن قال المعترض: أنا أوافق تماماً على هذا الكلام، لكنني أريد تطبيق هذه الشريعة من خلال سيادة الأمة التي أخذت مشروعيتها من خلال الصناديق والاقتراع؟

هنا نقول: أعدت القضية جَذَعة! وفعلك هذا ينافي الهيمنة الكلية للشريعة؛ لأنك وضعت النظام الآخر بآلياته مهيمناً عليها يعطلها تارة، ويعملها تارة، وهذا ميزان لا تقبله الشريعة، وينافي أصل ما شُرعت له.

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

هنا أضع القلم، وفي الخاطر أشياء وأشياء، وقد يكفي من الخريطة ما يخص الطريق، اللهمَّ أصلح من في صلاحه صلاحاً لأمة محمد، والسلام.


عبد اللطيف التويجري