مقاصد الشريعة .. وشريعة المقاصد

منذ 2015-01-29

واضح أن الحللي يبحث عن أصحاب الآراء الشاذة التي خرجت عن الإجماع ليسترشد بها فيذكر ما أورده ابن عاشور من أن مقصد الشريعة في هذا الأمر يرتبط بطبيعة النهي في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط فالنهي هنا عن الباعث على التعرض لهتك عرض المرأة فإن انتفى هذا الغرض فلا حاجه للتحريم أو اللعنة!!

تبحث النخبة العلمانية عن غطاء له شكل "شرعي" يسمح لهم بحرية الحركة في التعامل مع الأحكام الإسلامية والحدود الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة والمعلومة من الدين بالضرورة، لتفتح الباب على مصراعيه لأعمال العقل بالطريقة التي تطوع النظام السياسي الغربي في إطار لا يشك أحد في "شرعيته".

فضلاً عن التعامل مع تلك الأحكام باعتبارها ترتبط بالفترة التاريخية التي عاشها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته ولا تنطبق على حاضرنا إلا من خلال مبادئ عامة كالعدل والمساواة والحرية.. إلخ.

"مقاصد الشريعة".. أحد المصطلحات التي يستخدمها الفقهاء وعلماء أصول الفقه و"المجتهدون" في الأمور التي لا يوجد فيها نصاً من القرآن والسنة ولا إجماعاً لعلماء الأمة ولا إمكانية لاستخدام القياس في استنباط الأحكام.

فالمنطقة التي يعمل فيها هذا المصطلح محدودة جدا ولا تدخل في الحدود الشعرية والأحكام الإسلامية الثابتة، ويحكمها عدة مبادئ أهمها: أن دفع الضرر مقدم على جلب المصلحة، وأن المصلحة الكلية لها الأولوية على المصالح الجزئية للإسلام والمسلمين.

ما فعلته النخبة العلمانية هو توسيع نطاق المصطلح وجعله يعلو كل هذه المراتب بل يجعلونه يعمل حتى في وجود النص!.

الكاتب السوري عبد الرحمن حللي، كتب مقالاً تحت عنوان: ـ(تفعيل مقاصد الشريعة في فهم النصوص وتعقل الأحكام).

يقول السيد حللي "يقع كثير من علماء الشريعة والمفتين في حرج عند بيان حكم بعض المسائل التي لا يقدرون على فلسفة حكمها والاقتناع بها، وغالبا ما يتم اللجوء إلى الإقناع بالحكم من منطلق التعبد أو النص على العلة وتبرير ما قد يبدو مخالفا مع مقدمات أخرى تحذر من إعمال العقل في ما فيه نص وهكذا يسري الحكم ويلتزم به المسلمون تعبدا من غير قناعة".. انتهى كلام الحللي.

يعترض الحللي على قبول الأحكام الشرعية الإسلامية المؤيدة بدليل نص ثابت إلا من خلال قناعة العقل به، ويرفض اعتبار قبول المسلم له واعتبار أنه "عبادة".. ويعرض الكاتب لبعض الأمثلة يقتطعها من سياقها في كتاب الشيخ الطاهر بن عاشور "المقاصد"، يقول الحللي: لئلا يبقى الكلام نظريا وعاما أضرب مثالاً واقعياً من خلال مسألة يصل الحكم فيها إلى درجة لعن الفاعل، وهي شائعة بين المسلمين إلى درجة كبيرة وهي مضمون ما ورد في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله".

يضيف الحللي: "فالحكم المأخوذ من هذا الحديث هو تحريم أنواع من التجمل توصل الشعر وتفريق الأسنان وإزالة الشعر من الوجه والوشم، وفعل كل ذلك للغير، وترتبط الحكمة في تحريم ما ذكر بأنه تغيير لخلق الله.

ويشرح لنا "الحللي" رأيه قائلاً: "والتساؤل الذي يدور في الأذهان، أليس التجمل للزوج وبين المحارم من المباحات بل المندوبات؟ فَلِمَ إذاً حرمت هذه الأنواع من التجمل؟ وإن كانت علة التحريم هي كونها تغير خلق الله فكيف تكون إزالة الشعر تغييراً لخلق الله وقد أمر الشارع بإزالة الشعر من أماكن أخرى؟

بل كيف لا يكون الختان تغييراً للخلق وتكون إزالة الشعر من الوجه أو وصل شعر الرأس أو الرسم على البشرة من تغيير الخلق؟

يقيس الأستاذ "الحللي" الحكمة من التحريم بمقاييس عقلية تعلو المقاييس النصية ولذلك فهو يرفضها إن تعارضت مع فهمه وإدراكه العقلي ويسترشد بما كتبه ابن عاشور عن وجه التغيير لخلق الله الذي جاء في الحديث فينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة في أمر لعنة الله لما تفعله بعض النساء من الوشم والتنمص والتفلج، يقول الحللي: ـ "هذه التساؤلات مشروعة بل أساسية في تمحيص مناط التحريم وتحديد مفهوم تغيير الخلق الذي ارتبط به الحكم، ولم يقف أي من الفقهاء عند هذه التساؤلات قبل (ابن عاشور) الذي أثار هذه التساؤلات ومحص دلالة النص.

ثم ينقل عن ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" قوله عن قوله - تعالى -(ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسرانا مبينا) (النساء119).

وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما آذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن، فإن الختان من تغيير خلق الله ولكنه لفوائد صحية وكذلك حلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار وتقليم الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأفراط والتزين.

أما ما ورد في السنة من لعن الواصلات والمتنمصات والمتفلجات للحسن فما "أشكل" تأويله، وأحسب تأويله أن الغرض منه النهي عن سمات كانت يعد من سمات العواهر في ذلك العهد أو من سمات المشركات.

وإلا فلو فرضنا هذه منهياً عنها لما بلغ النهي إلى حد لعن فاعلات ذلك. وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنما يكون إثما إذا كان فيه حظ من طاعة الشيطان بأن يجعل علاقة النحلة شيطانية كما هو في سياق الآية واتصال الحديث بها". انتهي كلام بن عاشور وكلام الحللي.

واضح أن الحللي يبحث عن أصحاب الآراء الشاذة التي خرجت عن الإجماع ليسترشد بها فيذكر ما أورده ابن عاشور من أن مقصد الشريعة في هذا الأمر يرتبط بطبيعة النهي في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط فالنهي هنا عن الباعث على التعرض لهتك عرض المرأة فإن انتفى هذا الغرض فلا حاجه للتحريم أو اللعنة!!

وهكذا تسعى هذه النخبة لشريعة تغطي مقاصدها وتغلف نواياها وتكرس لعلمنة الإسلام أو "شرعنة" العلمانية، إن صح التعبير.


أحمد محمود السيد