لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
وأن الحقَّ سبحانه قد وزَّع المحاسِنَ والخِلال بين خلقِه بحسابٍ وقدر، فلم يرهِقَهُم بحملِ نعمةٍ ليس بعدها نقصان، ولم يمتحِنهُم بنقمةٍ ليس في طيَّاتها إلا شرٌّ أو بلِيَّة، حتى لا يصيبهُم الملَل والضَّجَر الذي يصيبُ أهل النِّعَم المُهداة والعطايا المُسْداة بغير حساب.
كلما اتَّسعَت مساحةُ العقل أدركَ الإنسان فيما يدركُه من العلومِ والمعارِف والحقائِق بأنَّ لا شيءَ أضيقَ على الصَّدر من انْسِدادِ شِريانِ القلب إذا حمَل مجراهُ أكثرَ ممَّا يتَّسِع بحملِه.
وأنَّ الحقيقةَ إذا ما كتملَت في عقلِ رجلٍِ واحد واسْتَأْثَر بها كِبْرًا وخُيلاءً كانت عليه خِزْيًا ووَبالًا، وأنَّ زينةَ الرأس غطاؤُه وعِقالُه، كما أنَّ زينةَ القلبِ ما حَوى ووَعى من النَّفائِسِ والدُّرَر.
وأن لبُّ اللِّسانِ أن يسْتَجْدي في كلِّ حالاتِه بعقلٍ سديدٍ، وحكمةٍ رشيدَة في موطِن إبداءِ الرَّأيِ والفكرة، وأن يميلَ إلى القلبِ الحاني في موطنِ الإفصاحِ عن الإحساسِ الرَّهيف، والشُّعور النَّفيس، والمعنى الشَّفيف.
فلا ينطِقُ عن الهَوى ولا يقذِفُ الناسَ بالطُّوبِ والحجَر، ولا يلسَعُ أهلَ الكرامةِ والمَزِيَّةِ بالشَّرَر، ولا يجِفَّ كجفافِ عودِه فينكسِر، وأنَّ زينةَ كلِّ ذي عقلٍ رشيد وقلبٍ سليمِ وفطرةٍ نقيَّة مزيَّةٌ وفضيلة، وإيمانٌ والتزام، وضميرٌ صاحٍ لا يُضام، وأن يعلمَ بأنَّ كلَّ من يدِبُّ على هذه الأرضِ إما مصيبٌ أو مخطِئ، إلا من اصْطفاهُ بالعصمة من الذَّنبِ والعِصيانِ والزَّلل، والسَّلامة من خوارمِ المروءَة والشَّرف، ولا عصمة لبشر إلا من كان نبيًّا مرسَل.
وأن يعلمَ بأنَّ هذا الكون بما حَوى قد جمعَ المعدِنَ الأصيلَ والمُنْتحَل، والدُّرَّ النفيسَ والجَوهَرَ المَهينَ الرَّذْل، وجرى فيه الماء الصَّافي وخالطَه الكدَر، كما جمع أهل الفضيلة والطُّهر وأهل الرَّذيلة واللَّوَث.
وأن الحقَّ سبحانه قد وزَّع المحاسِنَ والخِلال بين خلقِه بحسابٍ وقدر، فلم يرهِقَهُم بحملِ نعمةٍ ليس بعدها نقصان، ولم يمتحِنهُم بنقمةٍ ليس في طيَّاتها إلا شرٌّ أو بلِيَّة، حتى لا يصيبهُم الملَل والضَّجَر الذي يصيبُ أهل النِّعَم المُهداة والعطايا المُسْداة بغير حساب.
فالنفسُ تَعْيى وإن تنعَّمَت بلذاذَةِ الشَّهدِ والعسل، وترصَّعت بيواقيتِ الجوهَرِ والألماس، والْتحفَت الحَريرَ وسبائكَ الذَّهب، كما يؤذي النفس تبدُّل الأحوال، وتوالي الخطوبِ، واشتدادِ المِحن، وحملِ الرَّزايا للمَنايا كحمل الرُّوحِ للجسد؛ لا تَنْسَلخ عنه حتى تُساقَ للموت، وكل كمالٍ إذا ما تمَّ نقصان، فإن تسَل عن المرء فسَل عن المبطَن والمخبَر، ولا يغريكَ من حاله إلا المظهر.
وما أجمل ما قاله أبو البقاء الرندي:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمــانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد ولا يدوم على حالٍ لها شان
يُمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصــانُ
صفية الودغيري
كاتبة إسلامية حاصلة على دكتوراه في الآداب - شعبة الدراسات الإسلامية.
- التصنيف: