بشائر الأفراح
فما أسعد تلك القلوبض التي وجدَت ظِلَّها الوارِف ورُكْنَها الأمِن، يذكِّرُها بما هو أعظم من كلِّ شيء، ويلهِمُها الخُشوع وتدبُّر آيِ الله في ذاك الوجود الرَّحب، يحْجُبُ عن عينِها النَّظَر إلى الحياة ويكشِف لها النَّظر للأخرة، فتلتذُّ بنشوة الغبطة.
- إن السَّعادة لا تأتيكَ عُنوَة ولا اسْتِجْداءً:
إنَّما هي مَنبعٌ ثَرٌّ بالعَطاء، وأريجٌ فوَّاحٌ ينثُرُ شَذاهُ في الأفاق، وإشراقَةٌ توقِدُ فتيلَ الرُّوح وتصهَرُ أشواقَ الأحلام، وتُعيد للذَّاكِرة رفيفَ الخاطِرة فتتفتَّقُ كقطراتٍ ندِيَّة من مُهْجَةِ الحياة، ترطِّب ندوبَ الجِراح فتلتَئِم بلا مشقَّةٍ ولا عَناء.
إنَّه الإيمان حين تَنْتشيهِ قلوبُ الأَصفِياء فيُزَيِّن جبينَها بغُرَّةِ النَّصر، ويُقلِّد جيدَها المَعالي فتتَحلَّى بالاعْتِزازِ والفَخر، وتَرْتقي به مراتِبَ المَجدِ التَّليد ومهدَ الأتقياء مَزِيَّةً وتنالُ به سَجيَّةَ أهل الكرامَةِ والعزم، من عاشوا في الدُّنيا بزادٍ قليل وهُم في سعَةٍ ورَخاء، وماتوا وهم الأغنياءُ السُّعَداء، وما أجمل ما قاله الإمام الشافعي في مدح هؤلاء ممَّن زهِدوا في الدُّنيا وصانوا دينَهُم من التخَبُّطِ في لُجَّة الفِتن:
إنَّ للَّهِ عِبَـــادًا فُطَنَا تَرَكُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيٍّ وطنا
جعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذوا صالحَ الأعمالِ فيها سفنا
- والسعادة لا تسكنُ قلوبًا جَوْفاء:
قد تعلَّقت بالمالِ العريضَة، فتخلَّت عن مُقوِّماتِ الإيمانِ والفَضيلة، وساقَها الجحودُ والطُّغيان إلى الانْحِراف عن سُبُلِ الخيرِ والهِداية، وجذَبَتْها أهواءُ الشَّهَواتِ والمَلذَّات فشردَت في مَراتعِ الكُفرِ والضَّلالَة، وخامرَها المَيْلُ إلى الدَّعَةِ والرَّاحَة فأَفْسدَ سُلوكَها، وغَلَّ جَوارِحَها بأَغْلالِ الانْسِحاق والانْدِحار فشَلَّ تفكيرَها عن معرفَةِ الحَق، كأنَّ على أبصارِها غشاوة كتلك التي ختمَ الله بها على قلوبِ الذين كفروا، كما قال تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6-7].
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17].
قد ابتلاها الله تعالى بالحِرْمانِ من نعمَةِ الغِبْطَة وكرامَةِ أهلِ السَّعادة، وأَرْسَلَ على قلوبِها سِجافَ الحزنِ الكَثيف، فصارَت أَشْبَهَ بمُعْتكَفٍ ضَحَّ من البُكاءِ على الأَطْلال مَشْحونةً بالضَّجَر، لا تمَلُّ من تَجرُّع غُصَصِ المَرارةِ عن كَثَب، وضاقَتْ عليها الدُّنيا فلم تسَعْها برحابَتِها وانْبِساطِها، كما ضاقَتْ أَرْواحُها بأَنْفاسِها العَليلَة فلفظَتْها خارجَ شِرْيانِها الأَعْزَل كدُخَّانِ حطَبٍ يابِس، وصدقَ الحقُّ سبحانه حين قال في سورة طه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:123-125]
- والسَّعادة في لذَّةِ الإيمان:
يشرق نورُها الوهَّاج في قلوبٍ تعلَّقَت بالله فاطمأنَّت إلى رُكْنِه الذي لا يَنْهَد، وسكنَت نبضاتُها إلى وِسادِ الرَّاحةِ الرَّحيب كطِفلٍ مُتعَب توسَّدَ راحةَ المَهْد، تَرِفُّ بشَكْواها فيهُزُّها الحَنينُ إلى وُلوجِ روضِ السَّعد، وتَرْتَوي من سِقائِه الطيِّبِ العَذب، وتستظِلُّ بظلِّ نخلِه وتلْتَقِطُ ما تُثْمِرُه الرُّطَب من العِذْق، وتتْتَشي من لذَّةِ العبادة والذِّكر قُطارَةَ الشَّهْد، في لقاءٍ فريد له أَسْرارٌ لا يَسْبُرُ أَغْوارَها إلاَّ العارِفون بما تحتويهِ خزائِنُ الله مِن يواقيتِ الدُّرَر، ولا يَجْتلي أَنْوارَها السَّاطِعَة إلاَّ ذَووا البصائِرِ الصَّاحِيَة، والضَّمائِر الخالِصَة، والألَسُنِ الذَّاكِرَةـ، والجَوارحِ الطَّاهِرَة، من رُزِقوا التَّنَعُّمَ بالطُّمَأنينَة وَجَمَعوا الشَّمْلَ بأسبابِ الفَرحِ الوارِف، لمَّا تطَهَّروا من الذُّنوب وتحلَّلوا من المعاصي، وزَهَدوا في متاعِ الدنيا ورَغِبوا عن ملذَّاتِها بالكَفاف والرِّضا بالنَّصيبِ المُقَدَّر، فحيزَت لهم الدُّنيا بأَسْرِها، وما أجمل ما قاله في هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ».
والسعادة تسكن قلوبًا فرَّت من لُجَّةِ الأَدْناسِ وصدَّت عن شَقْوَةِ الفِتَن، فعاد إليها الصَّفْوُ يصدَحُ بخفَقانِ الحُبِّ، ينفضُ عن رفوفِ ذِكْرَياتِها دُخَّانَ الوَجَع، ويخْمِدُ في صَدْرِها المُلْتاع الكمَد والقهر، فيهتِفُ رُكْنُها الخامِل يسْتَجْدي وصْلاً بالمعاني التي تحرِّك رفيفَ الرُّوحِ، وتبعثُ في خلجاتِها أكرمَ ذِكْرى وأَشْرفَ عَهْد، وأَنْبلَ مَأْرَب، وأَسْمى قَصْد، فيلْتحِفُ صوتُها الشَّاكي قليلاً من الصَّمتِ والسُّكون، لترسِلَ المسَرَّاتُ بسماتِها مجَلْجِلةً في الزَّمنِ الرَّغْد.
- والسَّعادة في الجدٍّ والنَّشاط:
تتمَثَّلُها الحَواس في هذا الوجودِ الفَسيح فتقبلُ على الدُّنيا إقبالَ المُجِدِّين، لا يصْرفُها اللَّهو ولا اللَّغو، ولا فُضولُ الكلام عن الإنتاجِ والتَّحصيل، تصونُ مكارمَ الأخلاقِ عمَا يُزْريها ويشينُها، وتَنْأى بنفسِها عن مجالسةِ من اتَّقدَت قلوبهُم بالدَّخَن والدَّغَل، وتصُدُّ عمَّن خالطَ عُقولَهُم السَّفَه والدَّجَل، وتحفَظُ كرامَةَ أهلِ المجدِ والشَّرف، وتصونُ هيبَةَ أهل الوقارِ وسلطانِ أهلِ العِلم، وتحُثُّ الخُطى ساعِيَةً في الأرضِ بكَدٍّ ونشاط على شِرعَةِ أهل الرَّشادِ والصَّلاح، خالِيَةَ الذِّهنِ من كلِّ وجَلٍ أو عَطَل، تحصُدُ سنابلَ الزَّرع، وتلْتقِطُ الحَبَّ والثَّمر، وتصنَعُ بيدَيْها الرَّغيفَ والخُبْز، قانِعَةً بلُقَيْماتٍ تُقيمُ صُلْبَها، وتشُدَّ عودَها، وتقوِّي ساعِدَها، ولا يهْنَأ لها عيشٌ حتى يَرْبو النَّباتُ ويخْضَر، وتتَّسِعَ الرِّياضُ وتُزْهِر، وتَمْتَلِئ السَّواقي، والجَداوِل، وتفيض الأنهارُ بالماءِ العَذْب، لا يشغَلُها عن بلوغِ غاياتِها النبيلة طَمَعٌ زائِل ولا ترفٌ زائِد، ولا يَصْرِفُها عنها التَّعَب فِيما لا يُغْنِي وإن كَثُر، ولا يُحْزِنُها التَّأَسُّف عَلى فَوْتِ مَا لَمْ يُقَدَّرْ، وتتوقُ هِمَّتُها إلى ما يقرِّبها من الله ويُغْنيها عمَّا سواه، فتأتيها الدنيا راغِمةً مستبشِرة، مصداقا لإِرشاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : « »
فما أسعد تلك القلوبض التي وجدَت ظِلَّها الوارِف ورُكْنَها الأمِن، يذكِّرُها بما هو أعظم من كلِّ شيء، ويلهِمُها الخُشوع وتدبُّر آيِ الله في ذاك الوجود الرَّحب، يحْجُبُ عن عينِها النَّظَر إلى الحياة ويكشِف لها النَّظر للأخرة، فتلتذُّ بنشوة الغبطة.
صفية الودغيري
كاتبة إسلامية حاصلة على دكتوراه في الآداب - شعبة الدراسات الإسلامية.
- التصنيف: