البدائل الإرشادية عن التقنيات السلوكية

منذ 2015-02-16

بعد أن كتبت مقالتي (النظرية السلوكية.. فساد التصور وفشل التطبيق) وجدت المقالة قبولاً عند كثير من الإخوة العاملين في المجال التربوي، ولم يكن الاعتراض عليها إلا من قبل بعض المتخصصين في (علم النفس)، ولا غرابة في أن تصدر تلك الاعتراضات منهم بحكم انتمائهم الدراسي، ولن أقف عندها لأنها اعتراضات غير علمية، ولكني سأتصدى للإجابة عن أهم تساؤل علمي طرحوه... (ما البديل عن النظرية السلوكية)؟

بعد أن كتبت مقالتي (النظرية السلوكية.. فساد التصور وفشل التطبيق) وجدت المقالة قبولاً عند كثير من الإخوة العاملين في المجال التربوي، ولم يكن الاعتراض عليها إلا من قبل بعض المتخصصين في (علم النفس)، ولا غرابة في أن تصدر تلك الاعتراضات منهم بحكم انتمائهم الدراسي، ولن أقف عندها لأنها اعتراضات غير علمية، ولكني سأتصدى للإجابة عن أهم تساؤل علمي طرحوه... (ما البديل عن النظرية السلوكية)؟

وقبل الحديث عن البديل أوضح أن تلك النظرية هي نتاج فكري نابع من فلسفة مادية، "والمضللون بالمذاهب الفكرية يستخدمون لعبة تطبيق المنهج العلمي، الذي يطبق على الكائنات التي تخضع فطرتها لقوانين أو سنن جبرية فيطبقونه على الناس في دوائر سلوكهم الإرادي الذي وضعه الله فيهم موضع الامتحان والاختبار، ليبلوهم ثم يجازيهم ويحاسبهم " (1) السلوكيون وقعوا في مزلق مكشوف لكل متأمل عندما يطرحون نظريتهم بوصفها حلا شاملاً ينفع الإنسان في جميع أحواله، فهي تطبيب للمريض النفسي، وإرشاد للأصحاء نفسياً، ونظرية تعلم، ومع هذه الشمولية المتعالية، فإنها تجني على عقول دارسيها عندما تحتكر العلمية فتغلق منافذ معرفة وإدراك البديل لديهم، ولن نتحدث هنا عن البديل عنها في الطب النفسي، مع الجزم بعدم انتفائه حقيقة وواقعاً، فهناك دراسة للباحث مالك بدري عن دور الإسلام النفسي والروحي في مساعدة من يدمنون الخمر من المسلمين، خرج منها بهذه التوصية " فإن الأمر يكون محزناً حقيقة لو ظل المعالجون النفسيون المسلمون يعتمدون نظرياً وعملياً على (فرويد) أو (أدلر) أو (بافلوف) أو (سكينر) " (2)، فاستخدامها في الطب النفسي لا يعنينا مع ضلالها فيه، وإنما الذي يعنينا هنا استخدامها في تعليم وإرشاد (الطلاب الأصحاء) في مدارسنا، وأكثر مشاكل الطلاب الأصحاء هي مشاكل تربوية وأخلاقية تصدر من طلاب واعين بأخطائهم وتصرفاتهم، وليست مشاكل مرضية تحتاج إلى أجهزة كتلك التي يستخدمونها مثلاً في تقنية (الكف المتبادل)، والناقلون والمدربون لتلك النظرية في أجهزتنا التعليمية يعيدون علينا تلك التقنيات بين حين وآخر ولكنهم يفشلون في التمثيل لها في علاج كثير من القضايا التربوية، وبعض الأمثلة تكون سطحية وساذجة، مما يدل على أن ولوجها إلى الميدان التربوي كان خطأً وزيفاً.

وإن التساؤل عن البديل في الميدان التربوي يوحي بأن النظرية جاءت على فترة من الوعي والفهم، عاش الناس قبل مجيئها أكثر من أربعة ألاف سنة وهم حائرون ليس بين أيديهم أية نظرية مناسبة لتهذيب السلوكيات أو للتعليم، فجاءت تقنيات السلوكيين لتنقذهم من التيه حاملة لواء الإرشاد، مستمدة قوتها من خلال تجاربها على الكلاب والقطط والفئران، وهذا الإيحاء دليل على انغلاق فكري وتنكر لعمليات الإصلاح و التغييرات المؤثرة التي حدثت في تاريخ البشرية جمعاء، والتي غيرت معتقدات واهية، وأمراضا اجتماعية، وانحرافات نفسية وفكرية.

ومن أقوى عمليات التغيير ما جاءت به الرسالات السماوية التي جاءت لبناء الإنسان وسعادته في دنياه وآخرته، بل هو تنكر لما نراه واقعا من جهود وآثار المصلحين والمربين سواء في المدارس أو خارجها والذين لا يعتمدون على مثل هذه النظرية، ولا على علم النفس التجريبي، وطالب الحقيقة ما عليه إلا أن يسأل تلك النخبة ويرصد أحاديثها وطرائقها في الإصلاح.

إن طرائقهم تشهد بأن استخدام النظرية السلوكية في التربية والتعليم إنما هو استخدام وظيفي كتابي، وهو عكس ما يظنه أساتذة التربية الحديثة في الكليات التربوية، وينطبق على تقنيات تلك النظرية، ما وصف به ابن تيمية - رحمه الله - علم المنطق بأنه (لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد)، ولو فقد التربويون فجأة كل آثار النظرية من عقولهم وتحضيراتهم وسجلاتهم، فلن يشعروا بأنهم فقدوا شيئا ذا بال، وستسير أمورهم كما هي، والبديل الذي سأتحدث عنه ليس مخترعا جديدا، فلن أضع نظرية للقرن الواحد والعشرين، بل هي مبادئ ومهارات وأساليب معروفة لدى المربين، علمها من علمها وجهلها من جهلها، فبعضها ولد مع الإنسان منذ خلقه الله على ظهر البسيطة.

والتقنيات السلوكية لو افترضنا نجاحها فما هي إلا (آلية) لتغيير السلوك فقط، وليس مجرد الإلمام بالآلية هو المطلب الوحيد لنجاح المرشد الطلابي في عمله، إذ أن من مواصفات البديل وجود الخصائص الذاتية والنفسية التي يجب أن تتوافر في المربي الذي يقوم بعملية الإرشاد، حتى يكون قادرا على استخدام الأساليب البديلة، وهذه الخصائص والسمات تنحصر في ثلاثة أشياء:

أولا: الخصائص الفطرية الجبلية، كالحلم والعفو وسعة الصدر والفراسة وقراءة الأفكار ومعرفة لغة العيون، فليس كل من يلقن بتلك النظريات يمكن أن يكون مرشداً طلابياً ماهراً، فلو أن إنساناً من طبعه الغضب السريع في المواقف فلن تنفعه تقنيات السلوكيين أبداً في تعامله مع طلابه مهما كان إدراكه لها، وهذا على افتراض أنها مفيدة كما قلت، والخصائص الفطرية هبة من الله - تعالى -، وهي تختلف وتتدرج من إنسان إلى إنسان، قال - تعالى -(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (الحديد: 21).

ثانيا: المهارات المكتسبة، وأعني بها الطرائق والأساليب التي تساعد المرشد الطلابي أو المعلم على التعامل مع المرحلة العمرية التي يعيشها الطالب، فالرفق والتواضع واللين أخلاق كريمة ولكنها تحتاج إلى عمل مقصود، يبنيه المربي من خلال التعامل حتى تظهر أثار القبول عند الطلاب، إن إجادة استخدام نبرات الصوت، ولغة الجسد، والقدرة على الإقناع مهارات حية يجب أن يتدرب على إتقانها المرشد المربي، وهذه المهارات بابها واسع، وهي مهارات عملية يمكن ملاحظتها ورصدها، وليست تقنيات لفظية محددة ذات أمثلة سطحية كما رسمها السلوكيون.

ثالثا: القيم والمبادئ، مثل (الصدق) و (الأمانة) و (الإخلاص) وهي من أهم أسس التغير التي تجعل المربي أو المرشد مؤثراً، والطلاب في المرحلتين المتوسطة والثانوية يدركون ويقرؤون آثارها في معلميهم ومرشديهم، ويقصدون المتصف بها دون غيره في معالجة مشاكلهم، وهذه السمة هي التي تبني أسلوب (التربية بالقدوة)، والكليات التربوية التي أشغلت بالنظريات النفسية لا تعنى بتأصيل هذه المبادئ التي يجب أن يتحلى بها معلمو ومرشدو المستقبل.

و بعد بيان هذه السمات المهمة، ننتقل إلى البدائل الإرشادية عن النظرية السلوكية، ومجالها واسع، ومن أمثلتها: (القدوة) و (التأثير العاطفي) و (خطاب العقل) و(القصص) و (التربية العملية) و (التربية بالعادة) و (ضرب الأمثال) و (الحوار) و (الترغيب والترهيب) و (التأثير اللغوي) وتدخل البرمجة العصبية اللغوية في هذا الأخير إذا استثنينا بعض شطحاتها.

وهذه الأساليب تتمازج مع بعضها وتتداخل ويكمل بعضها بعضا في شخصية المربي والمرشد، فالإنسان وحدة متكاملة، وكل مهارة تحتاج إلى بسط حديث، ولكن تجنبا للتطويل سأتطرق للحديث عن (القدوة) و (التأثير العاطفي) و (القصة):

فالقدوة من أكبر المؤثرات في التغيير، واهتم المربون المسلمون بها على مدى السنين، إذ من السهل دراسة النظريات و " من السهل تأليف كتاب في التربية... ولكن يظل حبراً على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض " (3)، والمرشد الذي لا يعمل بما يدعو إليه لا يكون مصلحاً في نظر مجتمعه وطلابه مهما بلغ علمه ومهاراته ودراساته، وغياب القدوة تعتبر من أهم أسباب ضعف التربية في مدارسنا، إذ " أن التناقض بين القول والعمل والظاهر والباطن، وازدواجية التوجيه وتناقضه كل ذلك من أكبر مشكلات الجيل المعاصر " (4) " وإن المرشد يري الطالب الطريق ولكن لا يسيره فيه، وأما القدوة فهي تسيره فيه " (5).

وأما التأثير العاطفي، فهو أسلوب يخاطب الروح والعاطفة التي لا تعترف بها المادية السلوكية، والمربي الناجح يحرص على بناء هذا الرصيد حتى يكون مؤثراً، ومن أمثلته: كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار الذين غضبوا ووجدوا في أنفسهم، عندما وزع الغنائم ولم يعطهم شيئاً منها، فدعاهم وقال كلماته المؤثرة والتي منها: (أولا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله إلى بيوتكم، لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم) (رواه البخاري) فبكى الأنصار وقالوا رضينا، ودعا لهم بعد ذلك بقوله: (اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار) (رواه أحمد) فتغيرت مشاعر الغضب والموجدة وسوء الفهم بفعل هذا التأثير الوجداني، وأسلم خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بسبب كلمات مؤثرة بلغته من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكم من مربين استخدموا كلمات تخاطب الوجدان والعاطفة، لم يكن أثرها قاصراً على الطلاب بل تعداهم إلى أسرهم، ومشاهد التعديل بهذا الخطاب لا ينكرها أي مربي مقتدر. " والعاطفة الصادقة هي تلك اللغة الصادقة التي لا يجيدها إلا الصادقون المخلصون والأمارة الفارقة بين المتصنع وبين المخلص الجاد... والتلميذ يتعامل مع تلك الرسائل تعامل المقبل عليها... فتتجاوب نفسه، ويسمو على أهوائه ورغباته " (6) وآفة علم النفس التجريبي الغارق في قياس الظواهر أنه استبعد التأثير الباطني بحجة عدم قياسه، وماذا يمكن أن يتغير من الإنسان إذا اعتبرناه آلة عصبية نديره بالارتباطات الشرطية، ووضعنا روحه ومشاعره وعواطفه جانبا؟!

وأما القصة فهي الفن الرفيع المؤثر الذي يخاطب أعماق النفس البشرية سواء كانت مقروءة أو ملقية، وهو (أسلوب قرآني)، ولها تأثير ساحر في غرس فضائل الإيثار والتسامح والصبر، وتساعد الإنسان على التعاطي مع الأزمات، ولها دور في تعديل السلوكيات العدوانية، وتعترف بأهميتها حتى كتب التربية الحديثة التي تستقي أفكارها من نظريات علم النفس التجريبي، يقول د. صالح عبد العزيز (القصة تساعد على تربية الأطفال تربية خلقية صحيحة، فهي تضع المثل أمامهم وتستثير ميلهم إلى التقليد) (7)، ويشترط أن يحدد المربي الغرض منها وأن يكون ماهراً في فنون الأداء، وكثير من الدعاة والأدباء والمربين ومستخدمي البرمجة العصبية اللغوية غيروا قناعات الناس بهذا الأسلوب.

وأخيراً لماذا نشير إلى هذه السمات والأساليب؟ إننا في تربيتنا الإسلامية لا نعد الطالب آلة عصبية نغير سلوكه الظاهري فقط ببرامج شكلية خارجية ذات أوقات ومواعيد مبرمجة، بل نغير لهدف منشود واضح، يجعل شخصية الطالب متكاملة ومتزنة ومتوافقة مع مجتمعها، ومشاركة في بناء وطنها، إن التربية الإسلامية تعنى بتربية الروح التي تضبط سلوكياته الخارجية، ورواد النظرية السلوكية وعلم النفس التجريبي اللذان ولدا من رحم النظرية المادية ينكران الروح، فالإنسان عندهم كما الآلة، أعصاب ودماء فقط! ويقولون "بأن الفكر والشعور والعاطفة هي نتيجة المادة، فكما تفرز الكبد الصفراء.. فإن الفكر والعاطفة هي من إفراز المخ " (8) وهذا يتعارض مع الحقيقة الإنسانية، ومع ثقافتنا الإسلامية التي تعنى بالجانب الروحاني للطالب وتجعله هدفا، فالطالب إذا استقرت التربية الوجدانية في قلبه والتي تشكلها روحانية الدين، ووسطيته المضيئة، وحقائقه المتكاملة، حلت الطمأنينة في نفسه كما قال - تعالى -(ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد: 28) وعرف وظيفته في الحياة، وحرص على وقته، وجد في دراسته، وقل شغبه، ونأى عن السلوكيات المنحرفة، وأصبح ثابتاً أمام الأزمات، وأدرك أنه جزء مهم من هذا المجتمع له قيمته وكيانه، وهذه هي أسمى أهداف الإرشاد الطلابي، وأكثر الطلاب الذين تضيق المدرسة ذرعا بسلوكياتهم المنحرفة، والذين يتهاوون أمام الأزمات النفسية، هم بحاجة إلى غذاء الروح وإلى الدين، وعجباً كيف نتجاهل عامل الدين في إرشادنا الطلابي المتأثر بالنظريات؟ وهو "يوفر لصاحبه الحماية من الأمراض النفسية لأنه يحقق التوافق النفسي... فالمتدينون تقل نسب الانتحار بينهم.. وذكر (يونج) أن أكبر عدد عالجهم خلال ثلاثين عاما كانوا من البروتستانت، وأن أغلب من عالجهم كان ينقصهم التدين، بل وأوضح أن الشفاء لن يتم لهم إلا بعد عودتهم إلى الدين " (9) فالتدين فطرة، وله أثره ولو كان محرفا، فما بالكم ونحن ندين بالإسلام خاتم الأديان الذي يقوم النفس ويهذب السلوك ويغذي الروح، أبين هذا لأن مما يؤسف له أن من بين المعنيين بالإرشاد الطلابي ممن تأثر بالنظريات من يحاول عزل التربية الروحية عنه، وهذا من الخطأ الفاحش الذي يسقط مقولة (أننا نأخذ من النظريات ما يوافق ثقافتنا)، ولذلك فإن برامج رعاية السلوك، ومكافحة التدخين، والحد من السلوكيات العدوانية... تظل برامج شكلية ورقية، غير مجدية، ما لم يتمتع المرشدون بطرق النفاذ إلى وجدانيات الطلاب وتغييرهم من داخلهم، من خلال التربية الروحية، التي تجعل الطالب رقيبا على نفسه، نائيا بها عن الانحراف، ولهذا كانت مهنة الإرشاد الطلابي محل نقد في المدرسة، لضعف فاعليتها الحقيقية، وعدم تأصيل طرقة بما يتوافق مع منظورنا الثقافي في علاج مشاكلنا، وإن كان ثمة من تغيير أو أثر فهو محدود جدا.

 

الهامش

(1) كواشف زيوف، عبد الرحمن الميداني، ص 151

(2) التربية الإسلامية وطرق تدريسها، د. إبراهيم الشافعي، ص 34

(3) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب ص 180

(4) المدرس ومهارات التوجيه، إبراهيم الدويش، ص 49

(5) معالجة الإسلام لوقت الفراغ، د. أبو بكر إسماعيل مقا، ص59

(6) المدرس ومهارات التوجيه، ص 108

(7) التربية وطرق التدريس، صالح عبد العزيز ص 247

(8) روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة ص 117

(9) التربية الإسلامية وطرق تدريسها، ص28


محمد بن علي بنان