مآسى جحود الأبناء على أسرة المستشفيات
أما النمط الثالث فهو نمط اللامبالاة، وهو الذي لا يعرف متى يخرج الأبناء ومتى يعودون، ليس لديه القدرة على حل المشكلات أو تحمل المسئولية، وبالتالي لا يشعر أبناؤه بالدفء العاطفي داخل الأسرة، مما قد ينتج عنه إهمال الأبناء في معاملة آبائهم ردًا لكيل بكيل.
تتراقص الفرحة في عيني كل أم حينما تعرف أن في أحشائها جنينًا.. وتكبر الفرحة مع أول ابتسامة وأول صرخة لفلذة الكبد..تتفانى الأم وتبذل عمرها وراحتها لأجله أو لأجلها، وتمر السنون ليحين وقت حصاد الغرس.. ترى ماذا تحصد أمهاتنا؟.. وماذا يجنى آباؤنا من سعى العمر الطويل ومعاناة السنين؟.. تجولت في بعض المستشفيات، وصدمتني الإجابة!
رأسها الأشيب محاط بالضمادات.. آهاتها تكسر القلب، والحزن يسكن عينيها.. هي أم سقطت في حمام منزلها، وهى تعيش وحدها بعد زواج أبنائها، وظلت يومًا كاملاً تئن وتنزف إلى أن تذكرها ابنها وذهب لزيارتها، ونقلها إلى المستشفي وانصرف مرتاح الضمير، لتكمل هي مأساة وحدتها!
كل واحد في بيته
على السرير المجاور لمحتها.. ساقاها مفرودتان والجبس يخفي ضعفهما، سألتها عن حالها فابتسمت بحزن وقالت: كما ترين.. ساقاي اللتان كانتا لا تتعبان انكسرتا.. ولولا أن الجيران سمعوا آهاتي بعد أن انزلقت قدماي ونقلوني بفضل الله إلى المستشفي لظللت وحدي حتى الموت قرأت في عيني السؤال، فقالت بأسى: أولادي.. كل واحد في بيته مشغول بحاله، يا بنتي الحافظ هو الله.. وربنا يكفيك شر المرض!
أما تلك العجوز؛ فقد جعلني منظرها أكاد أجرى في الشوارع وأصرخ منادية أبناءها ليغيثوا أمهم بعد عمر العطاء الطويل، كانت نائمة بلا حول ولا قوة - لا تدرى بشيء حولها بعد أن أصابتها الغيبوبة، بينما يتسلل إليها محلول التغذية قطرة قطرة، ولكنه لا يبلل شفتيها الجافتين.
أشارت إليها الممرضة بحزن وقالت: القلوب صارت مثل الحجارة، فقد أحضرت لنا إحدى دور المسنين هذه السيدة بعد أن تركها أبناؤها فيها وتوقفوا عن زيارتها، وحتى بعد مرضها لا أحد يسأل عنها، مسكينة، والجحود أصعب من المرض.
أما هذا الشيخ.. فقد حزم أمره واتخذ قراره وذهب على قدميه إلى المستشفي بعد أن أصابه السرطان وانفض من حوله أبناؤه، فقرر أن يغادر منزله لكيلا يموت وحيدًا، حكايته قالتها لي الممرضة وهى تشير إلى مكانه، وتقول: وتحققت أمنيته ومات هنا، وشيعناه بدموعنا.
وعلى سرير آخر كانت ترقد مكومة.. دقيقة الحجم، بينما يمر عليها الأطباء ويداعبونها دون أن يعطوها أي دواء..
سألت أحدهم، فقال: إن عندها حزمة أمراض والعلاج غير مفيد، ولا يفيدها إلا الوجود وسط أسرتها وأبنائها، ولكن للأسف.. تركها ابنها هنا منذ أسابيع، ولم يعد يسأل عنها، وليس أمامنا إلا أن نلحقها بدار مسنين بعد أن تتحسن حالتها.
نقطة ضوء
ووسط قتامة تلك الصورة.. كانت هناك بعض نقاط الضوء، فقد أحاط مجموعة من الرجال والنساء بامرأة عجوز.. يطعمونها ويجففون عرقها، ويعدلون وسادتها، وعرفت أنهم أبناؤها الذين لا يفارقونها ويتناوبون عليها ليل نهار.
وفي الوقت نفسه - حكى لي طبيب قصة مؤثرة عن زميله الذي رفض أن يتزوج ليرعى أمه الأرملة دون أن تشاركه فيها زوجة - فقد تزوج كل إخوته وأخواته، وتفرغ هو لأمه، وفي فترة غيابه عنها كان يوفر لها من يقوم على خدمتها من الممرضات اللاتي يعملن في المستشفي، ويبذل في سبيل ذلك أموالاً طائلة. ومن شدة حبه لأمه كان يجلس أمامها على ركبتيه يضاحكها، وكان يمشط شعرها بنفسه برفق حتى لا تتألم، وظل هكذا حتى توفيت أمه، وخلت حياته منها، فلم يتحمل فراقها ولحق بها بعد شهرين، وكان عمره وقتها (60) عامًا!
خلل تربوى
يفسر لنا الدكتور على السيد - أستاذ أصول التربية بكلية التربية النوعية جامعة القاهرة - ظاهرة جحود الأبناء بالفجوة التي أحدثتها التطورات المعاصرة في شتى مجالات الحياة بين جيل وجيل، بالإضافة إلى خلل التربية في نطاق الأسرة، وتدليل الأبناء مما ينشئهم غير متحملين للمسئولية، فضلاً عن نقص الوعي الديني لدى الأبناء، وضيق ذات اليد.
ديموقراطية التربية
ويفسر د. على دور التربية أكثر في جحود الأبناء، مؤكدًا أن هناك ثلاثة أنماط من التربية الأسرية هي: النمط التشاوري، وهو الذي يشرك فيه الآباء الأبناء في معظم الأمور الخاصة بالأسرة، وبالتالي يقلل من حدوث المشكلات وسوء التفاهم بينهم.
والنمط الثاني هو: النمط الديكتاتوري، وفي هذا النمط يكون ولى الأمر، سواءً كان الأب أو الأم متسلطًا وحاكمًا بأمره، ومن الممكن أن يُحدث ذلك شرخًا قويًا في شخصيات الأبناء، ويتولد عنه الكبت والإحباط وعدم الانتماء إلى الأبوين.
أما النمط الثالث فهو نمط اللامبالاة، وهو الذي لا يعرف متى يخرج الأبناء ومتى يعودون، ليس لديه القدرة على حل المشكلات أو تحمل المسئولية، وبالتالي لا يشعر أبناؤه بالدفء العاطفي داخل الأسرة، مما قد ينتج عنه إهمال الأبناء في معاملة آبائهم ردًا لكيل بكيل.
الشبكة الإسلامية
موقع الشبكة الإسلامية
- التصنيف:
- المصدر: