أعظم ريحانةٌ في هذه الحياة

منذ 2015-02-17

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام نسألك أن ترزقنا البر بآبائنا وأمهاتنا، اللهم أرحمهما كما ربيانا صغارًا، وارزقنا برهما أحياءاً وأمواتا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم من كان مهم ميتاً فاغفر له وارحمه ومن كان منهم حياً فبارك له في عمره وصحته على طاعتك.

الخطبة الأولى

الحمد لله العلي العظيم، والصلاة والسلام على رسول رب العالمين وبعد:

حديثي إليكم عن أعظم ريحانةٌ في هذه الحياة، التي طالما سهرت من أجل أن تنام، وطالما تعبت من أجل أن ترتاح وتسعد، حديثي إليكم عن مربية الأجيال ومعدة الأبطال وصانعة الرجال...

إنها الأم.... نعم الأم

فإذا أردت الصحة والمال والعافية والبركة في العلم والفكر والأولاد فعليك ببر أمك، وكيف يرجون السعادة والراحة أولئك الذين ليس للأم مكانة عندهم لا في بيتٍ ولا في سيارةٍ ولا في سفرٍ ولا في راتبٍ ولا في مجلسٍ..

وإليكم هذا الحديث العظيم الذي طالما سمعناه ولكن هل فهمنا معناه، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال له:  يا رسول الله: (( من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: أُمك، فقال: ثم من؟ قال: أُمك، فقال: ثم من؟ قال: أُمك، فقال ثم من؟ قال: أبوك)) فهل تأملنا لماذا هذا التكرار؟؟؟

أما الأولى: فلكي نتذكر وإياك ذلك البطن الذي كنت فيه تتقلب فيه، فكم أحس بالتعب والإرهاق تأكل من أكلها وتشرب من شرابها ومع ذلك هي مسرورة تتمنى تلك الساعة التي تخرج فيها إلى هذه الدنيا بعدما قضيت في هذا البطن ما يقارب مائتان وسبعون يوماً.

وأما الثانية: لكي نتذكر وإياك أعظم مهمة لأمهاتنا، وهي مرحلة آلام الوضع والولادة، وهي المهمة الشاقة التي ربما أدت إلى موت الأم وبقيت حياً بعدها، وهناً على وهن وكرهاً على كره، وهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - رأى رجلاً يطوف حول الكعبة وعلى ظهره امرأة عجوز (منظرٌ عجيب) فتقدم ابن عمر إلى ذلك الرجل فقال له: من أي الديار؟ فقال: من خُراسان، فقال ابن عمر: من هذه؟ فقال الرجل: هذه أمي، أتيت بها من بلاد خُراسان، وهي على ظهري، وأطوف بها وهي على ظهري، وسأعود بها إلى الرحال والبلاد على ظهري...... يا ابن عمر، أُتراني قد وفّيت حقها من المعروف والبر الذي عليّ؟ قال ابن عمر لا.. ولا بطلقةٍ واحدةٍ من طلقات وضعك".

فكم ليلةٍ باتت بثقُلك تشتكي *** لها من قلبها أنّةٌ وزفيرُ

وفي الوضع لو تدري عليها مشقةٌ *** فمن غُصصٍ منها القلوب تطيرُ

وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها *** وما حجرها إلا لديك سريرُ

وكم مرةٍ جاعت فأعطتك قوتها *** حناناً وإشفاقاً عليك وأنت صغيرُ

فدونك فأرغب في عميم دُعاءها *** فأنت لما تدعو إليه فقيرُ

وأما الثالثة: فعندما ترى التجاعيد التي في وجه أمك، فتذكر سبعمائة وعشرون يوماً، وأنت على صدرها فليست يوماً أو يومين، وتذكر كذلك التعب والسهر والمشقة والتربية ومكابدة الحياة من أجل أن تعيش في سعادة وراحة..

أيها الناس: الأم هي أعظمُ هبةً في هذه الحياة، وهي الحب إذا ذُكر الحب، وهي الجمال عندما يُذكر الجمال، وهي العطاء إذا ذُكر العطاء، فإذا أردت أعظم طريق وأقصر طريق إلى الجنة فهو طريق الأم الغالية والبرُ بها، كيف لا والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لمعاوية بن جاهمة عندما أراد الغزو: ((أِأُمك حيّة؟ قال: نعم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إلزم رجليها فإنّ الجنة تحت قدميها)) ودائماً ننظر إلى الشموخ في الارتفاع إلا عند الأم، فكلما نزلت فأنت شامخٌ وكلما تواضعت فأنت شامخٌ.. قال الله - تعالى-: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)..

عباد الله: البر بالوالدة هو من أسباب مغفرة الذنوب، جاء رجلٌ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله: أذنبتُ ذنباً، فما قال له رسول الله اذهب وابني مسجداً، أو اذهب فتصدق بكذا وكذا، بل قال له - صلى الله عليه وسلم -: ((أأمك حيّة؟ فقال: لا يا رسول الله، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم-: خالتُك حيّة؟؛ -لأنها أخت الأم- قال: نعم، فقال له الرسول اذهب إليها وأحسن إليها فيغفر الله لك))...

وجاء رجلٌ إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وقال له: " أذنبتُ ذنباً عظيماً، فقال له ابن عباس: أأمك حيّة؟ فقال: لا، فقال ابن عباس: استغفر الله"، فجاء عطاء بن أبي رباح إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وقال له: "يابن عباس، لماذا سألته عن أمه؟، قال ابن عباس كلمةٌ عظيمة: والله لا أعلم عملاً أقربُ وأحبُ إلى الله - تعالى -من بِر الوالدة؟.

وجاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-، فقال له: " أذنبتُ ذنباً، فقال له: أأمك حيّة؟ فقال: لا.. بل أبي على قيد الحياة، فقال عمر: اذهب إليه وأحسن إليه فسيغفر الله ذنبك، فلما ذهب الرجل قال عمر: والذي نفس عمرٌ بيده لو كانت أمه حيّة فبرّها وأحسن إليها رجوت أّلا تطعمه النارُ أبداً".

عباد الله: دعاء الوالدة مستجاب، فهذا جبريل - عليه السلام- ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم- ليخبره: " أن هناك في أمداد أهل اليمن رجلٌ يسمى أويس القرني باراً بأمّه لم يمنعه من الوصول إليك إلا أمه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أويس القرني لو أقسم على الله لأبرّه))، بل أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل من يقابل أويس أن يطلب منه أن يستغفر له، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن دعوته مستجابة)).

وتقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: "رجُلان في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هم أبرّ الناس بأُمهاتهم هما: عثمان بن عفان والحارثة بن النعمان"، أما عثمان فله مع أمه برٌ خاص، يقول: " ما استطعت أن أتأمل في وجه أمي منذ أن أسلمت؛ حياءً وخجلاً، وخوفاً أن تكون نظرةٌ من النظرات عقوق" لا إله إلا الله، وأما الحارثة بن النعمان، فكان يُفلي رأس أمه، وكان يضع اللقمة في فيّ أمه، وعندما صعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراء والمعراج سمع صوت قراءة في الجنة، فقال لجبريل: ((لمن هذا الصوت؟، فقال جبريل: هذا صوت الحارثة بن النعمان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ذلكم البر ذلكم البر)) رغم أنه مات شهيداً في بدر، وقال عنه جبريل: ((هذا رجلٌ من المائة الذين رزقهم في الجنة على الله)) الله أكبر..

في عام الحديبية مر الرسول - صلى الله عليه وسلم- على قبر أمه آمنة بنت وهب، والتي دفنت بالأبواء بين مكة والمدينة، فبكى وأبكى معه الناس، وقال: ((استأذنت ربي أن استغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) رواه مسلم.

وهذا محمد بن المنكدر يقول: "بتُ أغمز رِجل أمي لتخفيف آلامها وبات أخي عمر يصلي ليلته فما تسرني ليلته بليلتي".

ماذا نقول لأولئك الذين يرفعون أصواتهم على أمهاتهم، ويدخلون عليهم الحزن والقهر والألم والمعاناة

فيا من فقدت أمك.. أبكي على فقدها وأكثر من الدعاء لها..

ويا من ما زالت أمك باقية.. فالزم قدميها فثمَّ الجنة..

فسيأتي يوم ولن تراها.. فسيأتي يوم ولن تراها..

يا من تريد الرزق: يقول الدكتور جاسم المطوع: " أنه قابل رجل أعمال شهير فسأله: من أين لك هذه الثروة العظيمة؟ فقال: بسب أمي، يقول الدكتور: فظننت أنه ورث هذا المال من أمه، ولكنه شرح لي القصة فقال: أصيبت أمه بغيبوبة لمدة سبع سنوات، وكانت في العناية المركزة بالمستشفى، فكان كل يوم يزورها ويمسك قدمها ويدعو لها قبل الذهاب للعمل في كل صباح، واستمر على هذا الحال حتى توفيت - رحمها الله- فبارك الله له في رزقه بسبب بره بوالدته"...

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام نسألك أن ترزقنا البر بآبائنا وأمهاتنا، اللهم أرحمهما كما ربيانا صغارًا، وارزقنا برهما أحياءاً وأمواتا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم من كان مهم ميتاً فاغفر له وارحمه ومن كان منهم حياً فبارك له في عمره وصحته على طاعتك.


معيض محمد آل زرعة