تحفة الأخيار من أحفاد عمر المختار
فقد انفلق صبح الخميس، الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة، من عام اثنين وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية الشريفة، عن فتح مبين، ونصر عزيز، بمقتل طاغية طغاة أفريقيا المعمر، وعقيد ليبيا المعقد، غير مأسوف عليه، بل متبوع بما يستحقه من الذم، واللوم، وما اقترفت يداه، طوال أربعة عقود من الزمن، جثم خلالها على صدر شعب عربي، مسلم، كريم، وسامه سوء العذاب؛ قتلاً، وسجناً، وتشريداً، وإهداراً للمقدرات، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
فقد انفلق صبح الخميس، الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة، من عام اثنين وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية الشريفة، عن فتح مبين، ونصر عزيز، بمقتل طاغية طغاة أفريقيا المعمر، وعقيد ليبيا المعقد، غير مأسوف عليه، بل متبوع بما يستحقه من الذم، واللوم، وما اقترفت يداه، طوال أربعة عقود من الزمن، جثم خلالها على صدر شعب عربي، مسلم، كريم، وسامه سوء العذاب؛ قتلاً، وسجناً، وتشريداً، وإهداراً للمقدرات، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله.
قصمه الله، كما يقصم الأرزة، فانجعف، وهوى، وانتُزع من جحره، كما ينتزع السفود من الصوف المبلول.
سقط (الجرذ الكبير) الذي لم يفتأ يعير الأبطال من أحفاد عمر المختار بـ (الجرذان)، وسقط أولاده المتغطرسون، وأعوانه الظالمون، سقطوا جميعاً في أيدي أحرار ليبيا، الذين صبروا، وصابروا، ورابطوا، حتى أقر الله أعينهم، وأعين المسلمين، في يوم من أيام الله المشهودة، وسننه المعهودة. وما هي من الظالمين ببعيد.
فإلى أولئك الأبرار الأخيار، من أحفاد عمر المختار، نهدي هذه التحفة:
أولاً: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ):
الذي شفى صدوركم، وأذهب عنكم السوء، وأزاح عنكم الغم.
لقد عودتمونا أيها المجاهدون الصادقون، في أحاديثكم، وتصريحاتكم، على اللغة الإيمانية، والعبارات الشرعية، المفتتحة بالبسملة، المختتمة بالحمدلة، وبين ذلك دعاء، ورجاء، وثقة بالله، وثناء. ألا يا عباد الله فاثبتوا! فإن الله يحب أن يحمد، وأن يشكر. فأكثروا من شكر الله الذي أنجاكم، وأهلك عدوكم وأنتم تنظرون. وإياكم أن تخلعوا ثوباً قشيباً ألبسكم الله إياه، وزينةً ظاهرة، وباطنة، زينكم الله بها، فتستبدلونها بلغة عالمية، متحذلقة، فضفاضة، أو دعاوى قارونية على غرار (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، فـ (مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126].
ثانياً: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ):
هنيئاً لكم النصر، وأنتم به جديرون. حققوا نصركم، معشر الأبطال، وأصلحوا أموركم، وثبتوا أركان بلادكم. لقد نلتم هذا النصر المبين، بفضل الله أولاً، ثم بجهدكم، وجهادكم، ودمائكم، وأرواحكم، وما قيض الله لكم من أسباب خارجية، لا تستقل بتحقيق النصر، ولا تدَّعي الاستفراد به.
ومع ذلك! فكونوا خير آخذ، وقولوا كما قال نبيكم: (كم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). عليكم أيها الفاتحين الأبطال، أن تفرقوا بين (أبي سفيان) و (ابن خطل). فمن دخل في سلمكم، وأظهر لكم القبول، فاقبلوه، ولا تنبذوه. ومن كانت خطيئته، وخطله، لا يغسلها التعلق بأستار الكعبة، فدونكم، فانتصروا: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى: 41].
إن المؤمن إذا انتصر، اغتبط بنعمة الله، وغلب جانب الصفح. وأما الفاجر، فإذا قدر، بطش، وفتك. فلا تعجب حين ترى الحافظ ابن كثير، - رحمه الله -، يورد شواهد العفو، عند آية النصر! قال - رحمه الله -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ): أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بعاجزين ولا أذلة، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا، عفوا، كما قال يوسف، - عليه السلام -، لإخوته: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 92]، مع قدرته على مؤاخذتهم، ومقابلتهم على صنيعهم إليه.
وكما عفا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولئك النفر الثمانين، الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم، مع قدرته على الانتقام، وكذلك عفوه عن غَوْرَث بن الحارث، الذي أراد الفتك به، حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ، - عليه السلام -، وهو في يده صَلْتا، فانتهره، فوضعه من يده، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف من يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره، وأمر هذا الرجل، وعفا عنه. وكذلك عفا عن لبيد بن الأعصم، الذي سحره، - عليه السلام -، ومع هذا لم يعرض له، ولا عاتبه، مع قدرته عليه. وكذلك عفوه، - عليه السلام -، عن المرأة اليهودية -وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة- التي سمت الذراع يوم خيبر، فأخبره الذراع بذلك، فدعاها فاعترفت، فقال: "ما حملك على ذلك؟ " قالت: أردت إن كنت نبيًا لم يضرك، وإن لم تكن نبيًا استرحنا منك، فأطلقها، - عليه الصلاة والسلام -، ولكن لما مات منه بشر بن البراء، قتلها به، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا، والحمد لله.
فهؤلاء قومكم، معشر المنتصرين، فاعفوا عنهم، والتمسوا لهم العذر، ولا تتبعوا فاراً، ولا تذففوا على جريح، وغضوا الطرف، ولا تستوفوا.
ثالثاً: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ):
الحذر! الحذر! من النزاع، والفرقة. كونوا عباد الله إخواناً. تطلعوا إلى الأفق الأعلى، ولا تتشاغلوا ببنيات الطريق. ميزوا بين المحكمات، والمتشابهات، ولا تصغوا للسفهاء، وعشاق الهيشات. كفُّوا عن التهارش، والتصنيفات المفتعلة، والتنابز بالألقاب، واصطفوا في وجه عدوكم، كالبنيان المرصوص. أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه. اعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا. اصبروا، ولو على أثرة عليكم، فما عند الله خير وأبقى، وهو أعلم بمن كُلِم في سبيله. وترفعوا عن الدنايا، يا رعاكم الله.
في مثل هذه الأوقات الحساسة يتسلل أهل النفاق، ومرضى القلوب، ليلقوا بذور الفرقة والخلاف. احذروا (شاس بن قيس) وغلامه، الذين يثيرون رهج الجاهلية، وغبار المناطقية، والعصيية الجاهلية، والتصنيفات المنهجية. إياكم أن يستزلكم هؤلاء اللصوص الذين يريدون سرقة نصركم، وإجهاض مشروعكم الواعد. عُو جيداً ما نهاكم الله عنه بقوله (ولا تنازعوا)، فنتيجته المحتومة أمران: (فتفشلوا وتذهب ريحكم). عافاكم الله، وعصمكم، وأتم عليكم نعمته.
رابعاً: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ):
أعين العالم ترمقكم، كما يرمق الذئب فريسته. دوائر الاستخبارات تدير رحى حرب صموت لاستزلالكم، واستدراجكم إلى بيت العنكبوت الغربي، المتمرس في امتصاص الدماء، أو استثارتكم، وتهييجكم لارتكاب تصرفات تُدينكم، بزعمهم. الأمر يحتاج إلى حكمة، وحنكة، وروية. لا ينتظر منكم، وحاشاكم، أن تعيدوا ليبيا، إلى (الحظيرة) النتنة، البئيسة، التي ارتهنها النظام البائد فيها، قرباناً لأسياده الغربيين، والشرقيين، كما لا يمكنكم العيش بمعزل عن العالم، وتجاذباته. لابد من التفريق بين باب الثوابت العقدية، التي تعتصم بها الأمة، وتحفظ لها دينها، وهويتها المميزة، وبين باب السياسة الشرعية، التي تتيح لها التعامل مع مختلف الفرقاء، والتفاوض، وإبرام المعاهدات، وبناء العلاقات السياسية، والتجارية.
لا ريب أن (الغرب) كان، ولا يزال، وسيظل حاضراً في المشهد الليبي، بل كان شريكاً فاعلاً في القضاء على النظام البائد الذي انتهت صلاحيته بالنسبة له، فكان لا بد من إتلافه. لكن هذا الحضور، وذلك الدعم، الذي تم بناءً على حسابات مصلحية، لا يعني الارتهان للغرب، ولا يقتضيه. ستجدون من بني جلدتكم من العَلمانيين، والليبراليين، وصنوف المستغربين، من يريد جركم بحبل الرق العالمي، (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) [التوبة: 47]، فاحذروهم، ولا تركنوا إليهم، وداروهم، ولا تداهنوهم. وثِّقوا صلتكم بالعمق الإسلامي، العربي، فهم فئتكم، وعيبة نصحكم، وأهلكم، وإخوانكم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة: 71].
حفظ الله ليبيا، وأصلح حالها، وأبرم لها أمر رشد، ووقاها من الفتن.
أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أستاذ في قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود
- التصنيف:
- المصدر: