من أفواه الفقراء!

منذ 2015-02-21

هل فكرتَ يومًا أن تجالسَ أو تصادق فقيًرا مِن هؤلاء؟ أن تذهبَ إليه أو تتصل به حينما تكون بحاجةٍ إلى رأي أو مشورة أو حتى سماع (وجهة نظر مختلفة) فيما نعيشه من أحداث متلاحقة منذ ثورة يناير، إلى الحد الذي فقدنا فيه قدرتنا على الرؤية أو حتى ملاحقة جميع ما يحدث واستيعابه بشكل (فعال ودقيق)؟ هل جربتَ أن تستمع لشيءٍ مختلفٍ، أو ربما متفق عما اعتدت سماعه بحكم الطبقة التي تنتمي إليها اجتماعيًا أو مهنيًا؟ هل جربتَ أن تتعلم بنفسك أسبابَ انتشار الجهل بين هؤلاءِ الفقراء؟

نظن أحيانًا أن الفقرَ كلمةٌ مقابلة للجهل، نعم! هي كذلك أحيانًا، وأحيانًا أخرى ليست هكذا بالمرة، ربما نختزل جُل تعاملاتنا مع الفقراء على (الصدقة والإحسان والكفالة)، فلا يجمعنا بهم سوى الوقت المستغرق لأداء هذه المهمة، ثم نمضي على أصداء أصوات دعائهم الطيب لنا، وكفى.

هل فكرتَ يومًا أن تجالسَ أو تصادق فقيًرا مِن هؤلاء؟ أن تذهبَ إليه أو تتصل به حينما تكون بحاجةٍ إلى رأي أو مشورة أو حتى سماع (وجهة نظر مختلفة) فيما نعيشه من أحداث متلاحقة منذ ثورة يناير، إلى الحد الذي فقدنا فيه قدرتنا على الرؤية أو حتى ملاحقة جميع ما يحدث واستيعابه بشكل (فعال ودقيق)؟ هل جربتَ أن تستمع لشيءٍ مختلفٍ، أو ربما متفق عما اعتدت سماعه بحكم الطبقة التي تنتمي إليها اجتماعيًا أو مهنيًا؟ هل جربتَ أن تتعلم بنفسك أسبابَ انتشار الجهل بين هؤلاءِ الفقراء؟

(عم سعداوي) فقيرٌ من فقراءِ مصر، -وما أكثرهم!-، ما إن تسمع صوته المبحوح من الكد، وترى جسده الهزيل من الفقر والسعي، (حتى تُدرك مدى فقره وحاجته)؛ فهو أب لسبع أبناء، ويعمل عامل نظافة حكومي، يتقاضى راتبًا لا يتجاوز الثلاثمائة جنيه شهريًا، حالته البائسة وفقره لم يؤثرا على ورعه وعلاقته الطيبة بربِّه وتفكيرِه المستنيرِ، برغم بساطته الشديدة جدًا.

كلما تحدثتُ معه رأيتُ عَالمًا مختلفًا عما اعتدناه، الوجه الآخر للصورة وللحياة بمصر كما لا يعرفها كثيرٌ من النخبة، أو من بعض أصحاب المنابر، وحتى بعض الحقوقيين والثوار أنفسهم، رأيتُ عصارة الألم والآثار المدمرة للصراعات التي تحدث بمصر منذ ثورة يناير وما قبلها، رأيتُ ردَّ فعل الفقير المهمش، ووجهة نظره (المهملة كرهًا أو طوعًا)، الفقير الذي لا تمثل له الثورةُ ولا تناوبُ الحكامِ والأسماء المختلفة في السلطة أي شيء على الإطلاق؛ فهو قابعٌ في الفقر منذ أن وعى على الدنيا، لا شيء يكبر معه سوى معاناته وفاقته..

تتغير الوجوه والأسماء، تتسارع الأحداث والخطوب، والفقر ما زال ثابتًا يؤرق مضاجعهم، وهم يبيتون بمعدة خاوية، وأجساد أنهكها البرد والجوع والمرض والسعي على الفتات، دار بيني وبين عم سعداوي هذا الحوار القصير، أحبُّ كلامَه وحكمتَه التي تقطر أسًى وصِدقًا، رغم بساطتها الشديدة التي ربما تبدو لبعض الناس أنها لسان حال المغيبيين أو الجهلاء، لكنها في الحقيقة هي لسان حال الفقراء وأصحاب الهم الأكبر والضرر الأكبر في كل ما يحدث.

- عم سعداوي، إيه رأيك في اللي بيحصل في مصر ده؟
"والله يا بتي الواحد تعب، ورأيي مش هيعجب حد، بس اللي أنا شايفه ودايق مراره إن البلد دي ربنا مسلط عليها كل اللي مش بيحبوها حتى لو قالوا غير كده، الكل بيكره التاني وواقف له على الغلطة، والناس مبقتش طايقة بعضها، عايزة الحكام واللي خايفين على فلوسهم ومصالحهم يحبوا بعض إزاي؟ ولا يخافوا على البلد دي إزاي بس؟ دي حاجة بقت تطير العقل والله، وربنا يتولانا".

- طيب ليه يا عم سعداوي شايف أن محدش بيحب البلد دي؟ أنت محسيتش بأي تغيير خالص من بعد الثورة؟!
"لا، و الله يا بتي، ما حسيت بأي تغيير لا قبل الثورة ولا بعدها؛ يعني الأسعار زي ما هي، كل يوم بتزيد واحنا تعبانين أكتر وأكتر، والمستشفيات زي ما هي، ولا في لينا علاج، ولا في دكاترة كويسة، والبيت زي ما هو، والعيال بتعذب في تعليمهم، وكل يوم بطلَّع واحد من المدرسة عشان يساعدني في المصاريف..

إحنا محدش بيفكر فينا يا بتي، ومبقيناش عايزين حاجة غير من اللي خلقنا، ثورة إيه وانقلاب إيه؟! إحنا ولا فينا دماغ نشوف مين راح ولا مين جه؟ ولا فاهمين دول عايزين إيه بالظبط، ولا دول عايزين إيه بالظبط! إحنا لينا اللي يغيّر حالنا ويحس بينا، ونلاقيه وسطنا هنا يشوف حياتنا شكلها إيه ويحس بوجيعتنا، وأهي أيام بتعدي علينا ومحدش حاسس بينا غير اللي خلقنا، سبحانه"!

انتهى الحوار القصير مع عم سعداوي، لكن لم تنتهِ حالة التفكير العميقة التي غرقتُ فيها.
فكم (مليون) عم سعداوي لدينا بمصر! وكم من فقير لا يحمل قلبًا تقيًا يخاف الله مثل عم سعداوي، حوّله الجوعُ والفقرُ والجهلُ والفاقةُ إلى ذئب مفترس ينتظر أي فرصة؛ لكي ينتقم من المجتمع الذي همشه وعزف على حرمانه وتجاهله تمامًا؛ فتحول بعضهم إلى بلطجية، أو قطاع طرق، أو سارقين، يروّعون الناس ليلاً ونهارًا، بل منهم مَن أصبح سلاحًا من أقوى أسلحة المستبدين في قهر المطالبين بحقوقهم في هذه البلاد! فهل أخطأنا حينما حاولنا الإصلاح والثورة من رأس الهرم وليس من قاعدته؟!

هل إخفاقنا في الوصول إلى هذه الطبقة الفقيرة والعمل الجاد جدًا على تغيير حالها، ليس بالمساعدات العينية التي سرعان ما يزول أثرُها بمجرد استعمالها وتبقى حاجتُهم وفقرهم كما هو، ولكن بالمساعدات التي تحوي (توعيةً ومشروعاتٍ حقيقيةً تجعل منهم أصحابَ دخلٍ ثابتٍ وإن قلَّ)، وتجعل منهم عناصر فعالة منتجة ماديًا وفكريًا حتى يكونوا بالوعي الكافي الذي يجعلهم يفهمون مواقفنا وأننا إن كنا خضنا ثورة فهي من أجلهم بالمقام الأول، بدلاً من أن نلومهم على جهلهم ونعيرهم به، ونقول لهم: "أياديكم ملطخة بدمائنا وأنتم متستاهلوش فلوسنا ومساعداتنا".

هل تجاهلنا لإصلاح هذه الفئة من المجتمع بنشر الوعي والقيام على تعليمهم ومساعدتهم بشكل فعال ومستدام؛ كان أكبر وجه من أوجه إخفاقنا حينما عملنا على نشر فكرنا وثورتنا بين الطبقة المتوسطة والطبقة الراقية الواعية، وتجاهلنا الفقراءَ الذين كان من الممكن أن يكونوا أكبر قوة داعمة لنا؛ لأنهم أصحاب المعاناة الأكبر والألم الأقوى على مدار العصور، وظننا أن قيامنا على تقديم المساعدات العينية، التي تعلمهم التواكل وعدم الاعتماد على النفس، حتى وإن استمرت على مدار عقود هو مجهودٌ كافٍ ليضمن تحسن أحوالهم ومساهمتهم الفعالة في الحراك الثوري من أجل تحسين أوضاعهم.

هل يصبح واحدًا من أكبر دروس هذه المحنة: أن ثورة (شعبية سلمية) بغير قاعدةٍ كبيرةٍ من كلِّ شرائحِ الفقراء الذين يمثلون قرابة الأربعين بالمائة من هذا (الشعب الثائر)، شريحة تنضم لنا قلبًا ووعيًا وإيماناً؛ لهي ثورةٌ محكوم عليها بشيء من الفشل إن لم يكن كله. 
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

غادة النادي

كاتبة و داعية إسلامية