نوستالجيا (مارجريت) - نوستالجيا (مارجريت) (5)
دخلتُ بخطوة جنديّ نازيّ متغطرس لأجدها تتقيّأ ألما ويأسا وحزنا وقهرا .. مع عشاء الأمس !، وقفتُ هناك بعيدا .. يخرج لي عقلي الباطن لسانه، ويضخّ شرياني الأورطيّ إلى أذني الوسطى أنشودة سخيفة لم يغنّها أحد : " أنت السّبب يا ظالم ".
دخلتُ بخطوة جنديّ نازيّ متغطرس لأجدها تتقيّأ ألما ويأسا وحزنا وقهرا .. مع عشاء الأمس !
وقفتُ هناك بعيدا .. يخرج لي عقلي الباطن لسانه، ويضخّ شرياني الأورطيّ إلى أذني الوسطى أنشودة سخيفة لم يغنّها أحد : " أنت السّبب يا ظالم ".
رفعتُها من ذراعها بعينين لا تريان، وضمير من يقتل القتيل ويتبع جنازته، ومسحتُ وجهها بالماء ..
وجهها المخلوق من أنوثة لا شيء غيرها ..
كنتُ - كما أنا وهي دوما - أقوى أمامها وأضعف معها، وتضعف أمامي وتقوى معي ..
ورفعتُ عينيّ لأنظر لذلك الّذي يزعمون أنّه يشبهني في المرآة .. وأفزعني جدّا ما رأيته ..
لن يكن هناك على وجه ذلك الآخر الّذي أخبروني أنّه انعكاس صورتي أيّ انفعال من أيّ نوع ..
لا قلق، لا شعور بالذّنب، لا عطف، لا غضب .. لا شيء ..
خواء وفراغ تامّ كوجوه الزّومبي ..
هل ما زلت حيّا حقّا ؟
أشعر بحاجة لشعور يدلّني على الحياة، أريد أن أبكي ..
إنّ البكاء أمام امرأة هو عري عند الرّجل الشّرقيّ ، لكنّه أمام الحبيبة نوع من العري المحتشم ..
وأدركت الحقيقة القاتمة فجأة .. إنّني أعاني أخطر مرض ممكن، جفاف الرّوح الّذي أهون أعراضه العجز عن البكاء ..
ما زلت أوقن أنّ البكاء هو صمّام أمان الرّوح، كزرّ التّنفيس في آنية الطّبخ بالهواء المضغوط (La cocotte)، ويبدو أنّ صمّام الأمان الخاصّ بروحي قد انسدّ من جرّاء قلّة الصّيانة، والانفجار سيأتي حتما في أبشع صورة ..
حينها لن يكون عريا محتشما أبدا .. سيكون نوعا من العري الهمجيّ، وسيصحبه الكثير من فضائح المخاط المتدلّي .. أنا واثق من هذا وخائف منه جدّا ..
هنّ أكثر منّا هشاشة وبكاء ظاهريّا، لكنّهنّ أطول نفَسًا بكثير .. ويحتملن من المصائب ومتاعب الحياة ما لو شقي الرّجل بعشرها لهوى على ركبتيه مستنجدا بأمّه ..
ذاك أنّ صمّام الأمان عندهنّ يعمل بكفاءة، ويجدن تمام صيانته والاحتفاظ به في أعلى درجات فاعليّته ..
ونحن نتندّر بهنّ ونراهنّ أطفالا .. حتّى إذا ضاقت بنا السّبل ارتمينا في أحضانهنّ بشوق طفل لم يعرف حضن أمّ قطّ في حياته ... فيزرعن على صدورنا زرع الأمان، ويمثّلن شعورهنّ بالأمان بين أيدينا ..
ما أقسى أن تكتشف أنّك مغرور ..
وما أكثر ما يكشفه لك النّظر في وجه الحقيقة، حين تكون عاجزا حتّى عن البكاء!
كانت ترشقني بصمت حادّ .. طويل .. متحدّ ..
ومرّت دقيقة طويلة ..
طويلة ..
أطول من ليالي الحبس الانفراديّ
ثمّ خرج صوتها يقطر حقدا :
- تزوّجت ؟
لم يكن جواب السّؤال مشكلا عندي أبدا .. لكنّ كلّ ما أحاط به جعل دوائر عقلي تعمل بأقصى طاقتها حتّى كدتُ أغيب عن الوعي فعليّا لا مجازا ..
كنتُ متفهّما تماما لكون أبسط حقوقك هو الحقد، لكنّي لم أكن أتصوّرك تملكين القدرة عليه.
ولم أتخيّلك تجرئين أن تسمّي الأمور بمسمّياتها، بل كنتُ أتوقّع أن تواصلي لعبتك الّتي تجيدينها في تسمية الأشخاص والأفعال والأشياء المرتبطة بما يؤلمك بأسماء مستعارة ..
الفراعنة كانوا يقولون عن من مات عبارة شديدة الوقار : " رحل غربا " .. وكنت أنت توشكين أن تقولي "رحل غربا " في كلّ ما يؤذيك.
وأبعد من هذا كنتُ أعرف أنّك امرأة، بل أنت المرأة في الواقع ..
والمرأة سؤال أو لا تكون .. وجوابي هنا سيجرّ سيلا من السّؤالات يبدأ بمن هي ؟ وكيف هي؟ ولماذا؟ ومتى؟ وهل ستواصل ؟ .. وينتهي حين تموت هي أو أموت أنا أو يموت من لا أقدر على تقدير موته حتّى احتمالا ..
أجبتُ وأنا في ما يشبه بالمطابقة حالة (ترانس) كاملة الأوصاف :
- نعم.
وانسحبتُ في هدوء إلى غرفة المكتب، وأعترف بكلّ خجل من نفسي أنّني ولأوّل مرّة كنت هاربا من الحوار ..
وسحبتُ أوّل كتاب طالته يدي عفو الخاطر من المكتبة ..
كان العنوان الّذي سحبته يدي، يشبه ما لو أنّ يد مخرج عبقريّ ملهم قد انتقته لتعبّئ المشهد الميلو دراميّ إلى النّهاية ..
كان عنوان الكتاب :
" Mens are from mars; womans are from venus "
الرّجال من المرّيخ، والنّساء من الزّهرة
لجون غراي
واتّكأت على الأريكة ككلّ مرّة يجفّ فيها الصّبر في عروقي، وأشرق باليأس، ويخنقني سعال الحديث معك أو عنك، أدخّن سيجارة على نخبك، وأبتسم في بلاهة للسّقف، فتخجل عنكبوت متدلّية حمقاء، ظنّا منها أنّي أغازلها ..
غدا سأكون أقوى، وأقدر على التّبرير، أمّا الآن .. فأحتاج إلى أن أغيب .. قارئا أو نائما ، لا يهمّ ..
ترى، متى أقدر أن أبكي ؟!
هذا فعلا هو التّحدّي الحقيقيّ ..
كمال المرزوقي
رئيس جامعة الإمام مالك للعلوم الشّرعيّة بتونس.
- التصنيف:
- المصدر: