قطار الجنة
كلنا على سفر، وكلنا يَستعد للرحيل، الزاد قليل والرحلة طويلة، وأما عن قطارنا؛ فهو ليس كأي قطار، فالبعض يَركبه وهو لا يَعلم، والبعض لم يُدرك أنه قد قطع التذكرة، والبعض لا يزال يُسدد في الثمن..
رائحة القهوة تملأ المكان، والبرد شديد، أصوات الباعة الجائلين حولك، معاطف تسير، ومَظلات تقترب، وصغار تركض، وشابَّة أنيقة تقف بخجل وتُخبئ دموعَها بكفِّها الرقيق، وهو يقف بخنوع أمامها، ولا يجرؤ على مسح تلك الدموع، ويتمنى أن لا يصلَ القطار؛ حتى تطولَ اللحظة، وأخٌ يبكى فِراق أخيه، وزوجةٌ تبكي فِراق زوجها الحبيب.
الكثير من المشاعر وبعض الوجع، وكأنهم برحيلهم يَخلعون شيئًا من القلب ويخطفونه معهم، البعض يبكي، والبعض ابتسامته الحانية تشقُّ الدموعَ ويُلوِّح بيده، وآخَرُ يَصيح مُودِّعًا ابنه: مع السلامة، أحبك كثيرًا، إلى اللقاء، انتبه لدراستك.. ويَنطلق القطار، وتتساقط قَطَرات المطر، فتختلط بالدموع.. هذه الدنيا!
كلنا على سفر، وكلنا يَستعد للرحيل، الزاد قليل والرحلة طويلة، وأما عن قطارنا؛ فهو ليس كأي قطار، فالبعض يَركبه وهو لا يَعلم، والبعض لم يُدرك أنه قد قطع التذكرة، والبعض لا يزال يُسدد في الثمن.
كمال! رجل ودود، ووجه طيب، وعينان صادقتان علاهما هلالان أبيضان، وانسحب فوقهما بساط اشتعل على الرأس شيبًا، تشهد كلُّ شَعرة فيه على حُسن خُلق، وصبر على وفاة زوجة حبيبة، وإخلاص في تربية بناته الثلاث، مُحتسبًا الأجرَ والثوابَ من الله، فصارت كل منهن كنجمة تسطع في سماء زوجها تُشعُّ خُلُقًا وتُضيء قرآنًا، وكفراشة تنشر العفافَ أينما حَطَّت، لم يكن يَعلم أنه قد قطع التذكرة، وأنه يسدد الثمن، وأتت لحظة الفراق والأنفاس تتسارعُ ثم تضيق، وفوق رأسه زهراته الثلاثة: "وداعًا أبي! نلقاك في الجنة".
حبيبة! فتاة رائعة وشابة ذكية، وهي الحبيبة للجميع، تَسأل عن هذا، وتُطعِم هذا، وتَسير ليلًا إلى بيتِ فلانة لتُعطيَها أجرَ مَسكنها، وتَطرُقُ باب جارِهم الطبيبِ، وتَأتيه ليلًا بطفل مريض، فلا يردها؛ لأنه يَعرفها ويَعمل معها لوجهِ الكريم، وتجمع من رفيقاتها لتشتري لأخرى الدواء، وتفتح خزانتها لتُسعِدَ غيرَها بأحسن ما عندها من ثياب، لم يستوقفها الفستان الأبيض، ولم يَخطف قلبَها بريقُ الضوءِ عندما يَسكن على حبات اللؤلؤ المصفوفة عليه، بل شَغَلها بريقٌ آخرُ يسكن في عين اليتيم، ونظرات الأرملة، والتفاتة المريض إلى وَجهها الحاني، وهي تَربت على كتفه، وها قد وصل القطار وعليها الركوب، وعلى يمينها فتاة أخرى تُطَبِّبُها، ليست أختَها، ولا هي ابنتها، لكنها تعرفها لأنها أطعمتها وأحبتها، وداعًا (حبيبة)! نلقاكِ في الجنة.
أحمد، شاب رائع، تراه وكأنك تنظر إلى لوحة كاملة الملامح لشاب كأبهى مَن ترى مِن شباب، عينان سوداوان يَحتضنهما بحنان جفنان ناعسان، وتلوح الأهداب وكأنها تُرفرف حول نظراته الحانية كحمامة سلام، وقامة طويلة، وذراع مفتول العضلات، أمطرت عليه سحابة الأيام البعضَ من الألم، وبللته بالوهن، وحطت على رأسه علامات الزمن، وعشش المرض، فرضي واحتسب وما كانت دموعه اعتراضًا، بل كانت صبرًا واحتسابًا وإشفاقًا من قلة الطاعات، وندمًا على ما مضى من لحظات الشباب، فاعتصم وثبت واتخذ رفيقه القرآن، وها هو القطار قد وصل، يشق الضباب، وصوت الملائكة يُناديه، وأمه تربت على رأسه وتُداويه، وتعطر لسانه بالشهادة، وهمست أمه: "إلى اللقاء يا قُرّة عيني! ألقاكَ في الجنة".
حسام! شاب ذكي وقوي الشخصية، ناجح ومثابر، خلوق ومؤدب، هكذا وصفوه، اشتاق إلى الجنة فودَّع زوجته وأمه، ورحل إلى هناك، حيث العطر رائحة الدماء، وحيث الناجون فقط من هم تحت التراب، وحيث علا الظلم فطغى في البلاد، وحط برحاله وقطع التذكرة وركب القطار، ونال الشهادة وودعته الأرض، وتهللت السماء له وتزينت، وغرَّدت لقدومه عصافيرُ المساء، واستقبلته حُورُ الجنان شوقًا وحبًّا وطمعًا، سلام عليك أيها الشهيد! نلقاكَ في الجنة.
جففْ دموعك ولا تحزن عليهم؛ فهم سبقونا وهمُ الفائزون، فافرك عينيك، وأزلِ الغشاوةَ حتى تتضح لك الرؤية، وتأمل أين أنت وابحث عن التذكرة، وراقبِ القطار؛ فهو بلا موعد وليس له محطة واسعة تملؤها رائحة القهوة، وإن استطعت أن تركض بعمل صالح خلفه فلتركض، وإن أتاك الابتلاء بتذكرة؛ فتمسك بها واصعد ولا تحزن، وقفْ معنا على الطريق ننتظر ونراقب، ولنعد زادنا لنسافر في رحلة تَحُفُّها الصعاب، لكنها تستحق.. لأنها إلى الجنة.
حنان لاشين
كاتبة إسلامية ملقبة بأم البنين
- التصنيف: