لا تلعن شيئا
من أخطر آفات السلوك التسرع والاندفاع في الحكم على الآخرين، وأن ننصب من أنفسنا قضاة نحكم باستحقاق هذا أو ذاك رحمة الله أو لعنته، والمتأمل يجد أن مجافاة الإسلام لهذه الآفة تنبع من منافاتها لطبيعة الإيمان الصادق الذي من أخص خصائصه الرفق بالخلق، فالمؤمن قلبه معلق بالله يرتشف من رحيق رحمته ما يرحم به الآخرين، ومن عذب رأفته وعطفه ما يبر به من حوله وبهذا ينسجم الإيمان مع كل معاني الرفق والعطف وينفر من كل غلظة وفظاظة وجحود.
من أخطر آفات السلوك التسرع والاندفاع في الحكم على الآخرين، وأن ننصب من أنفسنا قضاة نحكم باستحقاق هذا أو ذاك رحمة الله أو لعنته، والمتأمل يجد أن مجافاة الإسلام لهذه الآفة تنبع من منافاتها لطبيعة الإيمان الصادق الذي من أخص خصائصه الرفق بالخلق، فالمؤمن قلبه معلق بالله يرتشف من رحيق رحمته ما يرحم به الآخرين، ومن عذب رأفته وعطفه ما يبر به من حوله وبهذا ينسجم الإيمان مع كل معاني الرفق والعطف وينفر من كل غلظة وفظاظة وجحود.
واللعنة بمعناها الشامل المتضمن الطرد من رحمة الله تعالى تمثل أحد مظاهر هذا الاندفاع المذموم الذي تصدى له النبي صلى الله عليه وسلم في منهجه التربوي بالعديد من المناهي والتوجيهات، فيقول عليه أفضل الصلاة والسلام:
" إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة " [مسلم]
" ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء " [الترمذي]
" لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا " [مسلم]
" لا يكون المؤمن لعانا " [الترمذي]
" لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار" [الترمذي]
أي لا تدعوا على الناس بما يبعدهم الله من رحمته إما صريحا كما تقولون «لعنة الله عليه» أو كناية كما تقولون «غضب الله عليه» أو «أدخله الله النار»
وعن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد [جمع نجد وهو متاع البيت الذي يزينه من فرش ونمارق وستور] من عنده فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه فكأنه أبطأ عليه فلعنه فلما أصبح قالت له أم الدرداء: سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته، سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " [مسلم].
( شفعاء ) أي لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار ( ولا شهداء ) أي لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات، وقيل لا يرزقون الشهادة في سبيل الله.
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المؤمن كقتله.. ) [البخاري]
أي في التحريم أو العقاب أو الإبعاد، إذ اللعنة إبعاد من الرحمة، والقتل يبعد من الحياة الحسية.
ولعل في هذه الكثرة من الأحاديث النبوية ما يؤكد على خطورة أمر اللعنة، وضرر المجازفة الحمقاء في طرد الآخرين من رحمة الله في غرس معاني الكره والنفرة في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه المجتمع الإيماني متماسكا برباط المودة والحب، أفراده كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
بل تتجلى جدية الرسول صلى الله عليه وسلم في نزع جذور هذه الآفة من النفوس في أكثر من موقف مع أصحابه الكرام فتارة مرشدا وتارة مستنكرا وتارة معاقبا.
فعن جرموزا الهجيمي قال: قلت يا رسول الله أوصني قال: " أوصيك أن لا تكون لعانا " [أحمد] أي أن لا تلعن معصوماً، فيحرم لعن المعصوم المعين فإن اللعنة تعود على اللاعن، وصيغة المبالغة هنا غير مرادة.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان لذلك أهلا وإلا رجعت إلى قائلها " [أبو داود].
قال المناوي: ( إن العبد إذا لعن شيئاً ) آدميا أو غيره بأن دعا عليه بالطرد والبعد عن رحمة اللّه تعالى ( صعدت اللعنة إلى السماء ) لتدخلها ( فتغلق أبواب السماء دونها ) لأنها لا تفتح إلا لعمل صالح { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر:10]( ثم تهبط ) أي تنزل ( إلى الأرض ) لتصل إلى سِجِّين ( فتغلق أبوابها دونها ) أي تمنع من النزول ( ثم تأخذ يميناً وشمالاً ) أي تتحير فلا تدري أين تذهب ( فإذا لم تجد مساغاً ) أي مسلكاً وسبيلاً تنتهي إليه لمحل تستقر فيه ( رجعت إلى الذي لُعن إن كان لذلك ) أي اللعنة ( أهلاً ) رجعت إليه فصار مطروداً مبعوداً فإن لم يكن أهلاً لها ( رجعت ) بإذن ربها ( إلى قائلها ) لأن اللعن طرد عن رحمة اللّه، فمن طرد ما هو أهل لرحمته عن رحمته فهو بالطرد والإبعاد عنها أحق وأجدر، ومحصول الحديث التحذير من لعن من لا يستوجب اللعنة والوعيد عليه بأن يرجع اللعن إليه{ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} [النور: 44] [فيض القدير].
وعن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لا تلعن الريح فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه " [الترمذي].
وعن زيد بن خالد الجهني قال: لعن رجل ديكا صاح عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تلعنه فإنه يدعو إلى الصلاة " [أحمد] أي إلى قيام الليل بصياحه فيه ومن أعان على طاعة يستحق المدح لا الذم.
وقال الحليمي: فيه دليل على أن كل من استفيد منه خير لا ينبغي أن يسب ولا يستهان به، بل حقه الإكرام والشكر ويتلقى بالإحسان، وليس في معنى دعاء الديك إلى الصلاة أنه يقول بصراحة صلوا أو حانت الصلاة بل معناه أن العادة جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر وعند الزوال فطرة فطره اللّه عليها فيذكر الناس بصراخه الصلاة ولا تجوز الصلاة بصراخه من غير دلالة سواه إلا ممن جرب منه ما لا يخلف فيصير ذلك له إشارة [فيض القدير].
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة "، قال عمران فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. [مسلم].
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف:
- المصدر: