المتساهلون في الإجهاض؛ دواعش

منذ 2015-03-18

كان لأسلافنا تفنن في استثمار الأوقاف حتى وضعوا وقفًا خاصًا بالغاضبات من بيت الزوجية حتى يصلح الله الأحوال، أو يجعل الله لهن سبيلًا، ألا يمكن وضع مؤسسات خاصة بالرعاية المناسبة تفر إليها المخطئة والمكرهة وتستوعب من وقعت في الحمل غير الشرعي حتى تضع حملها بالشروط الصحية اللازمة

الإجهاض كما هو معروف، إسقاط الجنين قبل تمامه وكمال مدة ولادته، وهو العمل المقصود لإيقاف الحمل سواء من الحامل أو غيرها، وعرف بأنه: (إخراج الجنين عمدًا من الرحم قبل الموعد الطبيعي لولادته، أو قتله عمدًا في الرحم).

فهناك فرق واضح بين الإجهاض والحيلولة دون وقوع الحمل باستخدام الوسائل المختلفة، فهذه الأخيرة اجتهاد لمنع حدوث الحمل أصلًا، ولو شاء الله لكان، والإجهاض تدخل بعد تكون الجنين ولو في مراحله الأولى، والعلماء يتحدثون عن بداية حياة معتبرة من نهاية الأسبوع الثاني من الحمل ويستدلون بحالة انفصال التوأمين وتكون عادة في حدود اليوم الرابع عشر من تلقيح البويضة، وهناك من يؤكد أن الدراسات الحديثة دلت على أن الجنين يأخذ جميع المواصفات الخلقية للإنسان في غضون الأسابيع الثمانية الأولى.

وفي الحديث النبوي الشريف يأخذ الجنين صورته الآدمية البشرية السوية، بعد أربعين يومًا من جمع خلقه في بطن أمه، وهو بالتعبير القرآني عندما يصير {خَلْقًا آخَرَ}، فلا تسمى النطفة نفسًا ولا العلقة ولا المضغة كذلك، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].

وقد روى مسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكًا، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! أجله. فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! رزقه، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص».

فبظهور ملامح البشرية على الجنين يصبح نفسًا بشرية يحرم الاعتداء عليها وحرمانها من حق الحياة، وكل اعتداء عليها قتل وجريمة، وفعل شنيع لا يقل في عمقه عن بشاعة ما نستنكره من أفعال الدواعش بتساهلهم في أمر الدماء، فإذا كان الشرع قد نبه إلى أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، بحيث لم تطعمها ولم تتركها ولم تفتح لها الباب لتأكل من خشاش الأرض والحشرات والهوام ونحو ذلك، فكيف بالنفس البشرية في أي مرحلة من مراحل تكونها قبل نفخ الروح وبعدها.

ولا شك أن شناعة الجريمة تعظم بحسب مرحلة التدخل بالإجهاض، فمتى تكونت النفس فقد أصبحت لها حرمة النفوس، والتي لم يجزئها الشرع إلى كبيرة أو صغيرة، جنين في بدايته أو كهل وشيخ كبير في أواخر عمره، وإنما قال: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، والجنين لم يقتل أحدًا ولم يحدث فسادًا في الأرض، فبأي حق يقتل ويجهض ويحرم من الحياة.

أمن المعقول أن نأخذ الجنين بجريرة وذنب غيره؟ فهذه زنت بإرادتها وارتكبت إثمًا ومعصية، أيليق أن نزين لها قتل جنينها، أو نسهل لها فعلتها الشنيعة بالتقنين وغيره، لتزيد على إثم عظيم إثمًا أعظم منه، إذ معلوم تقديم النفوس على الأعراض في ترتيب المقاصد، وكذلك قتل النفس عند الله أعظم من الزنًا، وتلك امرأة اغتصبت لا ذنب لها فيما وقع، إذا تحركت قبل تكون الجنين وغسلت رحمها من ماء المجرم المغتصب، فلا شيء يعاب عليها، لكن إذا تكون الجنين وأصبحت له نفس حية، فبأي ذنب يسقط ويجهض؟ وما دخله هو في جريمة الاغتصاب وأمر الضغط الاجتماعي والعار ونحو ذلك من آثار تلك المصيبة.

وكذلك الشأن في (زنا المحارم) نسأل الله العفو والعافية والسلامة من كل بلية، فهل كلما ارتكبت حماقة وجنون وتفلت أخلاقي واجتماعي وخروج عن الشرع والعرف والقانون، هربنا إلى الأمام وتنازلنا عن المبادئ والأصول وقننا المصائب وبحثنا عن الحلول التي نرى أنها سهلة ولو كانت عند الله عظيمة، وركبنا ظهر جرائم أبشع وأشنع كأن نجيز ونسوغ قتل النفوس ولو في حدود كما نتوهم، ويؤدي الأجنة الثمن، نعم، حمل المحارم بعضهم من بعض كارثة أخلاقية عظيمة ينفر منها معظم الآدميين في الأرض، ولكن مهما كان من أمرها، ليست في مستوى قتل النفس، على الأقل في ميزان الشرع، فلا يدفع شر بأقبح منه.

ثم لماذا التفكير في اتجاه قتل الأجنة وإجهاض ما في الأرحام؟ ألأنهم الحلقة الأضعف، فهم لا يدرون ولا يعلمون وهم في أحشاء الأرحام، ولا يعرفهم أحد، ولم يستأنس بهم أحد، ولم يألفهم أحد؟ أليسوا نفوسًا، أليسوا خلقًا من خلق الله، لهم حق الحياة كما نريد جميعًا أن نتمتع بحق الحياة؟ ثم متى كانت الحقوق تمنح فقط للأقوياء، إلا إذا أصبحنا في غابة الوحوش يحكمها قانون الغاب؟

ألا ننزعج ويشتد بنا الألم والحسرة لما آلت إليه أوضاع المسلمين في التساهل الشديد في الدماء؟ ألا نتمنى أن لا يكون لنا أدنى صلة وأدنى علاقة ولو كانت مجرد كلمة الإسلام بيننا وبين هذه المخلوقات التي تسمى (دواعش)، والتي تقتل بجهل وهوى وبأدنى شبهة؟ أليس دعاة الإجهاض ودعاة تقنينه في اتجاه توسيع باب الإباحة فيه أشد وأسوأ من (الدواعش)، لأن هؤلاء يقتلون على الشبهة، ودعاة الإجهاض يقتلون الأبرياء؟ فكيف يواجهون سؤال: وإذا الأجنة سئلت عند ربها بأي ذنب حرمت من حقها في الحياة، وأي جرم ارتكبت حتى تقطع أوصالها وترمى في مجاري المياه والمزابل؟

و(دواعش) الأجنة، يجب تعريتهم وكشف أقنعتهم وإزالة الأصباغ التي تغطي أوجههم الكالحة وأنيابهم الحادة البارزة التي بها يفترسون وينهشون الأجسام الغضة الطرية، ومخالبهم التي بها يقتلون ويمزقون، سيظهر بعضهم في صور ذوي البدل البيضاء ممن يحمل أمل الرحمة والشفاء والشفقة على النساء وتفريج الكرب وإزالة الهموم والغموم، وحقيقتهم سباع مفترسة وذئاب جائعة على الدوام مهما كدسوا من أموال وثروات، فقط، هم يتوجسون من العمل السري ويخشون المحاسبة وانكشاف أمرهم، ويسعون بتقنين الإجهاض إلى أكل فرائسهم في هدوء وراحة بال من غير إزعاج.

و(دواعش) آخرون قطعوا صلتهم بدينهم وبأصول أمتهم، وأعطوا كل ولائهم لهيئات يسمونها أممية ودولية وحقوقية، يرجون تصريف قناعاتهم بعدم صلاحية شريعة الإسلام للاستمرار، وإحلال الفكر المعادي لها في مختلف مجالات الحياة التي يستطيعون الوصول إلى القرار فيها، وليت شعري عن أي حقوق للإنسان عندما نتساهل في قتل الإنسان كبيرًا أو صغيرًا أو جنينًا؟ وقد تجد من هؤلاء من لا يقيم للمبادئ وزنًا، وإنما همه إعطاء بعض ما تيسر من حساب عند وصول موسم حصاد القرارات والتوصيات الأممية والجهات المانحة و(المتبرعة) بالتعويضات السخية وتذاكر الطائرات وليالي الفنادق والموائد المستديرة والمستطيلة، فلا بد أن يفعل شيئًا بخصوص الإعدام والإجهاض والتعدد والزواج المبكر والمساواة ونحو ذلك.

و(دواعش) آخرون لغفلتهم وسذاجتهم، أو لما يرونه من ذكائهم المفرط وألمعيتهم، ييسرون عمل السابقين ويبحثون لهم عن الرخص، لأن الاجتهاد هو (الرخصة عن الفقيه، وأما التشدد فكل الناس يحسنه).

ونسي هؤلاء أن في مثل هذه المواطن شديدة الحساسية يمتحن الإيمان بالمقاصد والكليات، وما أدري فيما يفيدنا تحديد الضروريات في حفظ خمسة أصول كبرى على ترتيبها المعتبر: الدين ثم النفس ثم العقل ثم العرض ثم المال، أليس الإجهاض وتقنينه وتوسيع أبواب إباحته ضرب مباشر لحفظ النفوس التي تأتي بعدها باقي الحقوق وليس قبلها؟ وهذه تجارب الأمم أمامنا هل زاد الإجهاض بعد تقنينه أم نقص؟ فالإحصاءات تقول هو في ازدياد مستمر، فما الفائدة إذن؟ أليس حريًا بنا أن نغير وجهة التفكير والاجتهاد للبحث عن حلول أخرى بما لا يزلزل الأركان ويهز الأصول ويهدد النفوس والأرواح؟

كان لأسلافنا تفنن في استثمار الأوقاف حتى وضعوا وقفًا خاصًا بالغاضبات من بيت الزوجية حتى يصلح الله الأحوال، أو يجعل الله لهن سبيلًا، ألا يمكن وضع مؤسسات خاصة بالرعاية المناسبة تفر إليها المخطئة والمكرهة وتستوعب من وقعت في الحمل غير الشرعي حتى تضع حملها بالشروط الصحية اللازمة، سواء كانت عادية، أو من ذوي المحارم، أو المختلة عقليًا ونفسيًا ثم ينظر في أحوالهن وأوضاعهن بما يناسب من إدماج أو محاكمة أو نحو ذلك، المهم إنقاذ المرأة من دواعي الانتقام وإنقاذ الجنين من الموت والإهمال، ثم يشجع الناس على كفالة الأولاد أو توضع مؤسسات لرعايتهم، وبموازاة ذلك ينظر في الحلول الشاملة المندمجة التي تنخرط فيها مختلف المؤسسات العلمية والتربوية والثقافية والاجتماعية وغيرها لترسيخ حب الله وحب طاعته وهداه وجنته ورضوانه، والخوف من غضبه وناره وعقابه، ومساهمة الجميع في إقامة دينه ورعاية حدوده والعناية بالصلاح والإصلاح، والرفع من قيمة العفة والستر والتقليل من الإغراء والإغواء، والاجتهاد في تطبيق شريعته، فلو كان الزاني والزانية والمغتصب ينالون حق الله فيهم، لساهم ذلك في تقليل الظاهرة، ولو شاع أكثر التكافل والتراحم واستيعاب ذوي الزلات والأبرياء لإنقاذ النفوس لساهم أيضا بنصيبه المعتبر.

ويستثنى في الإجهاض ما يغلب على ظن الطبيب الثقة أنه سيفضي إلى هلاك المرأة وموتها مثل أن يتخلق الجنين في غير موضعه الطبيعي ثم ينتفخ ويفجر القناة وينفجر في بطن المرأة فيقتلها ويموت الجنين نفسه، فحينئذ يجوز الإسقاط ويجوز التدخل الجراحي لإخراج هذا الجنين؛ لأنه لإنقاذ نفس محرمة وليس من باب إسقاط الأجنة؛ وإنما هو تلافٍ لضرر أكبر فالحياة المتيقنة مقدمة على الحياة المظنونة.

وبخصوص تشوه الجنين: فيباح فقط إجهاضه إذا كان فيه خطر محقق على صحة المرأة، أما إذا اقتصر الأمر عليه فلا يجوز كما لا يجوز قتل معوق بعد ولادته.

وأما المتزوجون الذين تدفعهم إلى الإجهاض مفاجأة الحمل في غير الأوان الذي ينتظرون، فتحضرني قصة حكاها لنا الأستاذ عبد الإله بنكيران حفظه الله، من زمان غير يسير، عندما استفتاه إطار كبير في مؤسسة مالية وكان له ولد واحد، ففوجئ هو وزوجته بحمل غير منتظر رغم الاحتياطات، فأجابه الأستاذ ببساطته المعهودة: "اترك الحمل يكمل بسلام، وعند ولادته مرحبًا به لأضمه إلى عشيرتي وأبنائي".

والخلاصة أن من يعين بكلمة أو بشيء لتيسير أمر الإجهاض أو تقنينه فهو (داعشي) ومجرم قتال ومن مصاصي الدماء وعشاق تقطيع أوصال الأبرياء، وإن زعم غير ذلك، ثم إن سعيه في تباب، فلن يحل تقنين الإجهاض الإشكالات التي تطرح، بل سيزداد أمره ويستفحل، وواقع الدول التي قننته شاهد على هذه الحقيقة، ولأن يبقى في الناس خوف وتردد من الإقدام على هذه الجريمة خير من أن يأتوها وهم مطمئنون من المحاسبة والمتابعة، وأما من يطرح الاستفادة الاقتصادية وزيادة الضرائب بالتقنين فلا يستحق الرد وبئس من يقدم المال على حفظ الأرواح، والأسوأ منه من يدخل القضية في حرية الجسد والحال أن الإنسان في المنظور الشرعي ليس مسموحًا له أن يضع حدًا لحياته فينتحر، وبالأخرى أن يقتل غيره بغير حق، فالجنين وإن تكون من المرأة وفي أحشائها كائن مستقل وضيف كريم، ولعلاج مصيبة الإجهاض يكون بإبقائها بغيضة وكريهة وجريمة قبيحة، تعالج بمزيد من تشديد العقوبة على من اقترفها وساهم فيها من قريب أو بعيد، ثم الاجتهاد في معالجة مسبباتها؛ بالتربية، ونشر العفة، والتكافل، والتراحم، وفتح الباب أمام النادمين، واستيعاب الخطائين التائبين، وتشجيع الزواج، وتشديد العقوبة على الزناة والمغتصبين، واستيعاب الآثار، ورعاية المواليد الذين لا ذنب لهم، والله يتولى الصالحين.

 

بقلم/ د. محمد بولوز.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام