بين الأمس المؤلم والغد المأمول.
كما أننا في مسيس الحاجة إلى فترة من الزمن، يحيا فيها المسلمون مسلمين سلوكًا وفعالًا، دون أن يتاجروا برسالتهم مقالًا وشعارًا، وهذا ما أسميه أنسنة الصراع قبل أسلمته، بمعنى أن يخالط الإسلام بشاشة القلوب حقًا، فتتحرك الأبدان والجوارح به سلوكًا وعملًا
كثيرًا ما يكون كف الأذى، والإمساك عن الشر، و خيرية الصمت على القول هي واجب الوقت، ولازم الحال، وزاد السفر لكل من أيقن أن سفينة الحياة -وإن طال إبحارها- لا بد لها أن ترسو يومًا على شاطئ يَصْدُرُ فيه المسافرون مصادر شتى، بعد أن كانوا في سفر واحد، و سفينة واحدة، وهبّت عليهم من الأعاصير والأنواء العاتية ما كشف عن وجهتهم التي يممّوا وجوههم شطرها، وميّزت بين من ركب السفينة ووجهة سفره منازل المُعتَقين، وذاك الذي لا يبالي أن يكون في درك الموبَقين.
جاء في صحيح (مسلم) من حديث (أبي مالك الأشعري) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »
وقد أسلفت بالذكر في سابق مقالاتي أنه ليس من لوازم العبقرية وضروراتها أن يكون لك في كل بئرٍ دلو، وفي كل نادٍ مقعد، وفي كل حادثة حديث.
في العاشر من شهر فبراير الماضي كنت قد كتبت في مقالة أعلنت فيها توقفي عن الكتابة بعد زيارة الوفد الممثل لشرعية الدكتور(محمد مرسي) -فك الله أسره- إلى مبنى وزارة الخارجية الأمريكية، والذي أراه من وجهة نظري قرارًا خاطئًا يتحمل تبعاته كاملة من اتخذه أو شارك فيه، ثم قلت في حينه: "إن الله لم يخلقنا لنكتب في صحائف الناس التي قد لا يقرأها أو لا يلتفت إليها أحد، بل خلقنا لنكتب في صحائفنا التي ستُنشر على رؤوس الأشهاد يوم القيامة إذا الصحف نُشرت"، فإما أن تكون صحفًا تسوق إلى الجحيم إذا سُعِّرت، أو تقود إلى الجنة إذا أُزلفت، وقد دعوت الجميع إلى وقفة صدق مع النفس، وإجالة النظر في الذوات، وفي الاتجاه الذي نسير فيه، وقد وعدت السادة القرّاء الذي يتجشمون عناء القراءة لنا أن نعود إليهم بمقالة في صورة رسالة نوجهها إلى الدكتور(محمد مرسي) -فك الله أسره- لعلها تقترب أو تعبر عما يعتمل في صدورنا، وصدور المرابطين بسلميتهم وثباتهم ونضالهم في ميادين العزة والشرف، دفاعًا عن إنسانيتهم وكرامتهم وحقهم العادل في حياة كريمة أو رحيل أكرم.
كما تعهدت بتقديم رأينا ورؤيتنا لما نأمل فيه، من فجر حضارة جديدة، ونهضة حديثة بسواعد الجيل الذي حيل بينه وبين قطف ثمار ما غرسه لنفسه من فسائل الحرية وبذور الحضارة، التي تعيد إليه إنسانيته وكرامته المسلوبة بفعل التزاوج الآثم بين آلة الاستبداد الجبارة وآلة (النفاق الملتحي)، التي لم تدع فسيلة من فسائل الكذب إلا غرستها في خارطة إدراك الأمة وبنيتها المعرفية، بما أذاقها لباس الذل والهوان عقود عددًا، ونزع منها كل مقومات البقاء والقوة من تواّد وتراحم وتعاطف فيما بينها، وتكافؤ دماءها، وسعي أدناها بذمتها، وكونها يدًا واحدة على من سواها، كما جاء في سنن (النسائي) و(أبي داود) عن سيدنا (على) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ».
غير أن آلة الاستبداد الجبارة المدعومة بكتائب (النـفـاق الملتحي) جعلت من دم المسلم أقل من دم كلب، ولم ترعوِ عن المجاهرة بذلك، حين جعلت من الحكم بالسجن ثلاث سنوات والغرامة الكبيرة للذين قتلوا الكلب بالهرم في مصر خبرًا رئيسًا يتصدر دعارتها الصحفية والإعلامية، في رسالة واضحة إلى صنّاع الكوارث وعباقرة الهزائم وأتباعهم من الذين لا زالوا يعيشون في غيبوبة وتيه نقاء السلالة التنظيمية والعنصر الإسلامي المميّز، والمحروس بصناديق التكافل، والتراحم الحصري، والمنضبط بعدم التواصل مع غير القلوب التي اجتمعت على ورد الرابطة والأسرة والشُعبة.
ما يحدث في ساحة بني أمتي وقومي من أحداث جسام، وأهوال عظام، مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام (مسلم) في صحيحه من حديث ثوبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
».عدت إلى هذا الحديث الشريف حين شاهدت برك وأنهار الدماء، التي تسيل في أرجاء دول الربيع العربي والثورات العربية في مجازر بشعة، تديرها من خلف الستار آلة الشر والاستعمار، في مشهد يوحي بأنه ثمة قرار قد اتُخذ بين الكبار لتكرار تجربة الإبادة الجماعية للهنود الحمر مع أولئك الذين سولت لهم أنفسهم أن يستعيدوا إنسانيتهم في حياة وهبها لهم خالقهم، قوامها الحرية التي كفلها لهم واهب الحياة، وترك لهم خيار الكفر به أو الإيمان: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
والعدل:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45].
لقد قلت ولا زلت أكرر إن ما ارتُكب في حق هذه الأمة من نكبة على يد جيل وقيادة رأت نفسها فوق المحاسبة، وبلغت في كثير من تصرفاتها ما بلغ الفراعنة الصغار، وهم في حقيقتهم دون منازل العبيد التي يبلغونها حين ينقلبون على تنظيماتهم وكياناتهم التي كانوا على رؤوسها، ويسحّون مداد مذكراتهم الشخصية سُـمًا رُعافًا وفجورًا يجرّعونه للذين كانوا يهتفون بأسمائهم بالأمس القريب، لهو أمر لا يصلح للتعامل معه -إذا كنا جادين- سوى أن تُطوى هذه الصفحة تمامًا، وتُنهى هذه الحقبة فورًا، حقبة (النفاق الملتحي)، و(الكـذب المنتـقـب)، والبدء الفوري في مرحلةٍ قوام منظومتها الأخلاقية هي الأخلاق الأولية من صدق وأمانة ووفاء وشـرف، وتستحضر نموذج سيدنا محمد الصادق الأمين قبل أن يبعثه الله رسولًا وهاديًا للعالمين، ويتهيأ القائمون عليها لموجة عاتية من الطابور الخامس الجديد الذي سيضرب من الداخل بعنف، ولن يُسلّم ما بيده من أدوات ووسائل بسهولة ويسر -إلا من رحم الله- وقليل ما هم.
كما أننا في مسيس الحاجة إلى فترة من الزمن، يحيا فيها المسلمون مسلمين سلوكًا وفعالًا، دون أن يتاجروا برسالتهم مقالًا وشعارًا، وهذا ما أسميه أنسنة الصراع قبل أسلمته، بمعنى أن يخالط الإسلام بشاشة القلوب حقًا، فتتحرك الأبدان والجوارح به سلوكًا وعملًا، في ظل قيادة تهوى إليها النفوس، لم تـتـلوث في تاريخها بما يحول بينها وبين اجتماع الأمة عليها، ومن ثم فإن وحدة التصور والهدف، ثم وحدة المرجعية المفسّـرة والمنظّرة، ثم المأسـسة الحقـيـقـية الحديـثة التي تقوم على فكرة المؤسسة والدولة وليس الشعبة والجماعة، ثم الجندية الراشدة، تلك أركان أربع، ينبغي أن تكون الأساس لأي رؤية يُراد طرحها للمناقشة أو النظر.
وفي مقالاتنا القادمة بإذن الله تفصيل لما أُجمل، ووفاء لما سبق التعهد به من رأي أو رؤية، وتناول لبعض ما شهدته وتشهده الساحة من أحداث ودعوات، ربما ظهر مسيس الحاجة للوقوف عليها من وجهة نظر أخرى.
بارك الله في آجالكم، وأصلح الله أعمالكم.
حسن الخليفة عثمان
كاتب إسلامي