{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} نص قرآني ونموذج مكرر

منذ 2015-04-26

نحن أمة واحدة منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وعلى ذلك فمن واجه الدعوة وعادى الأمة في أولها أو في آخرها فهو عدو للأمة الواحدة، فمعاداتنا لمن وقف أمام الدعوة في أولها كمعاداتنا لمن عاداها وصد عن الحق في آخرها..

مع حملة الزندقة العامة والتشكيك في ثوابت ‏هذاالدين العظيم.. قال البعض أن سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، هي سورة تاريخية تحكي عن موقف خاص انتهى وانتهى أثره، وبالتالي أصبح هذا النص القرآني كذلك نصًا تاريخيًا..

وهذا خطأ شديد.. فهذه السورة الكريمة ليست نصًا تاريخيًا وإن تضمنت موقفا تاريخيًا، بل دروسها باقية..
فإن اختيار القرآن لهذا الحدث أو ذاك ليكون محل تنزيل كلام رب العالمين له دلالته، ونحن نبين بعض ما تضمنته من الدروس الباقية إلى قيام الساعة وانقطاع التكليف:

1- نحن أمة واحدة منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وعلى ذلك فمن واجه الدعوة وعادى الأمة في أولها أو في آخرها فهو عدو للأمة الواحدة، فمعاداتنا لمن وقف أمام الدعوة في أولها كمعاداتنا لمن عاداها وصد عن الحق في آخرها.. ومن هنا فمعاداة أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم وللإسلام هي معاداة لهذا الدين، ولهذه الأمة التي سوف تعتنقه والتي اعتنقته على مدار التاريخ؛ فهو تاريخ واحد إذًا، وموقفنا منه والذي نتلوه اليوم إلى قيام الساعة هو موقف الأمة الواحدة.

2- أن الفترة الأولى من حياة هذه ‏الأمة هي فترة إنشاء الأمة وترسيخ هذا الدين، ولأننا أمة واحدة فنحن نحمل أحداث هذه الفترة، قال الصحابة: "كنا نعلّم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن"، فنحن نتعلم أحداثها ودروسها، ونحمل آلامها ومعاناتها كما نحمل إنجازاتها، ونسترشد بها في حملنا لهذا الدين في أي فترة زمنية تالية، وهذه الحادثة هي من ضمن الأحداث التي تحملها ذاكرة الأمة.

3- إبراز قيمة الكلمة وقيمة الموقف الطيب أو الخطأ الفاحش، وخطورة كل منهما، فقد تبقى كلمة أو موقف تخلد في الناس إلى يوم القيامة بخير أو بسوء، وتذكر في الملأ الأعلى بخير أو بسوء، بحسب هذه الكلمة وهذا الموقف، ومن هنا فقد خلّد هذا الموقف إلى يوم القيامة تنبيها لهذه القيمة.

4- ومن هذا عموم وبقاء الحذر من معاداة الإسلام وأهله، لأنه كلمة رب العالمين وليس كلام شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يختلقه بل أبلغه، فمعاداته معاداة لله تعالى، وعلى من يقف موقف العداء أن يواجه غضب رب العالمين سبحانه، والله تعالى باقٍ وحي لا يموت، فمن نصره أو عاداه خلدت هذه الذكرى وتلك، فقد خلد نصر أبي بكر ومعاداة أبي لهب.

5- لم يذكر القرآن أبا لهب فقط، فإن كان ذكر اسمه، لكنه ذكر أشخاصًا أخرين، كالوحيد الذي فكر وقدّر، إلى أن قال {فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24]، وقد نزلت في شخص بعينه هو الوليد بن المغيرة، وكما ذكر الحلّاف المهين وهو الأخنس بن شريق، وكما ذكر من كفر وقال {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم من الآية:77].

ولم تكن هذه المواضع وهؤلاء الأشخاص -إما بأسمائهم أو بأوصافهم- أشخاصًا تاريخية فحسب، وإنما هي نماذج بشرية، نماذج مكررة، وهذا فارق ضخم في الفهم، فمن أغلق الله تعالى قلبه ظن أنها حكاية تاريخية انتهى عملها وأثرها وحسب، بينما الحقيقة أن القرآن العظيم ذكر نماذج بشرية هي بطبعها متكررة..

فترى نموذج أبي لهب صاحب المال والولد شديد الحقد على الحق وأهله، سريع الخصومة معاجل العداء، ترى هذا النموذج متكرر، وتراه في أوقات كثيرة بعينك وتعرفه.

وترى نموذج من فكر وقدّر واستخدم الفكر والفلسفة في رد هذا الدين.
وترى نموذج العُتل الزنيم الشرير وهو حلّاف مهين جبان.
وترى نموذج من فتت العظام البالية مستبعدًا البعث لمجرد أن وصلت العظام إلى مرحلة البِلى، متناسيًا لقدرة إنشائه من العدم، وإن كان صاحب المقولة والحادثة هو شخص بعينه كأبيّ بن خلف.. وهكذا فمن لم يفهم هذا أغلق على نفسه فهم هذا الكتاب الخالد الباقي إلى قيام الساعة وحرم نفسه من الخير.

6- وجوب التريث والتفكر وعدم المعاجلة في معاداة أمر لم تعرف أبعاده، ولم تعط لنفسك فرصة التفكر فيه، فقد تزل زلة تبقى إلى يوم القيامة، وهذا معطَى واضح من هذه السورة.

7- عموم معنى {مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2]، يعني المال والولد، وكلاهما لا يغني عن سيىء العمل، فلا أغني عنه ماله ولا أغني عنه ولده من عذاب الله تعالى في الآخرة، ولا من الذم في الدنيا، فمن تعزز بهما أو الْتجأ إليهما فقد خاب ظنه وسعيه.

8- عموم وبقاء معنى أن ما يتفاخر به العبد في الدنيا إن لم يحسن العمل فإنه يعيَّر به في الآخرة، فكان يكنى أبا لهب لوضائة وجهه، كونه أبيضًا مشربًا بحمرة؛ فلما أساء العمل ولم يشكر النعم عوقب بتبديل الوضاءة إلى لهب مؤلم ومذِلّ، وليس محل فخر في الآخرة.

9- عموم وبقاء معجزة كتاب الله تعالى، وكونه كتاب الله تعالى لا كلام بشر؛ فقد أبلغ تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الشخص بعينه هالك ومعذب ولن يؤمن، ومع هذا فلم يؤمن، وحقت عليه كلمة الله، وتطابق الإخبار الغيبي بما حدث من عمل، وتطابق العمل مع انقطاع تكليفه، وفي هذا إعجاز بإخبار الله تعالى بالغيب وصدق هذا الإخبار واطراده حتى ممات هذا الهالك.

10- عموم وبقاء رد الله تعالى ودفاعه عن المؤمنين؛ فقد تولى تعالى الرد على من اعتدى على نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه السورة، وبهذا جرى القدر بعد ذلك أن يذبّ الله تعالى ويدفع عن أوليائه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج من الآية:38].

11- عموم وبقاء واطراد العقوبة بعكس روابط الدنيا، فمن اجتمعت محبته على غير الله وعلى المعاداة لله تعالى ولدينه، قلب الله تعالى هذه المحبة عداوة يوم القيامة، وجعل نفس هذه المحبة سببًا للعذاب وسلط الله تعالى أحدهما سببًا لعذاب الآخَر، فامرأة أبي لهب تحابت معه معاديين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فجعلها تعالى يوم القيامة تأتي بالحطب ليعذب به يومئذ.

12- عموم وبقاء معنى أن من كان عزيزًا في الدنيا فعصى ربه تعالى أهين يوم القيامة، فامرأة أبي لهب هي أم جميل (أروى بنت حرب بن أمية)، ولم يغن عنها هذا شيئًا، فلما شاقت الحق وخالفته أهينت وجُعل في رقبتها هذا الحبل تُشد به وتحمل به الحطب لزوجها.. وهذا عام في كل من وقف موقفها، فقد صارت عبرة.


13- أن هذه السورة علامة على صحة الرسالة والنبوة، وأنها رسالة وليست مُلكًا، فلما عادى عم النبي صلى الله عليه وسلم الحق أهين وأُبعد وعُذّب، بينما قُرّب بلال وخبّاب وصهيب وفقراء المؤمنين وضعفاءهم.. لو كان هذا مُلكًا لحابى النبي عمه أبا لهب ولكنّ هذا الدين حاسم تمامًا في هذا.. وهذا عام، حتى من نصره ولم يؤمن لم تخالَف قاعدة هذا الدين {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء من الآيات:48-116]. فلم يدخل أبو طالب الجنة لكنه جوزي بنصرته للنبي صلى الله عليه وسلم بتخفيف العذاب.. وهذا عام مع أبي إبراهيم وابن نوح وامرأة نوح ولوط.. إنها النبوة إذا.

إن الطعن في هذا الدين لن يؤذيه بل سيُظهر بريقه ويخرج كنوزه ويجعل الله تعالى هذا الطعن عائدًا على صاحبه، هالكًا مبتورًا، يحيا مكبوتًا، ويموت كمدًا، ويبقى الحق يزداد سطوعًا بإذن الله.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي