وحدك تعلم (1)
صعدت رُوح صديقتها أمام عينيها.. بعد طلقة غدر من أحد "أفراد الأمن" !! حملتها معهم بيديها.. ركضوا بها ما استطاعوا.. ثُمّ رحلت رُوحها..
لا تعلم ما الذي أيقظها بالضّبط..
ولا تعلم كم من الوقت غفت عيونها أصلًا ..
تجلس في ظلام غرفتها ..
تُفكر، كيفَ تخلَع كل هذا عن رأسها الآن، ليهدأ قليلًا.. قليلًا فقط!؟
(1)
نعم.. صديقتها.. وأخوها، يقضون اليوم أوّل ليلة لهم في زنازين أحقر أهل الأرض.
واليوم أيضًا، في الجامعة (منارة العلم) !!
صعدت رُوح صديقتها أمام عينيها.. بعد طلقة غدر من أحد "أفراد الأمن" !!
حملتها معهم بيديها.. ركضوا بها ما استطاعوا..
ثُمّ رحلت رُوحها..
وفي المشرحة، طوال النهار يُحاولون إذلال الجُثّة بإجراءات يَنْدَى لها جبين الإنسانية
ضحكت ..
يا لسخافتها! أيّة إنسانِيّة تنتظرها في مُعاملة الجسد من القاتل!!؟
لا تستطيع خلع ملابسها هذه التي طالتها الدماء.
ما زالت تفوح رائحة كالمسك وأجمل من قطرات دم صديقتها المسفوك غدرًا.
لَكم تمنّت لو تشم رائحة شهيد.. حلمت كثيرًا بهذا!
تتذكر كم كانت تبتسم.. كلما حاولت أن تتخيّل ذلك.
أيّ عبير فردوسيّ سيكون يا تُرى!؟
لم تكن تَدري أنه سيحدث.. ومع صديقة قريبة من قلبها جدًا.
شمّت عبق زفّتها للجنان، واحتضنته بيديها!
(2)
تَمُرّ بين الأخبار بحَذرٍ شديد.
حَكَايا كثيرة من أُسر الشُهداء والمعتقلين.
أمّا هذا المقطع.. فتعرفه جيدًا..
حوار مع أسرة تعيش في أوّل شارعها!
يتحدّثونَ عن هذا الصّغير "عبدُ الله"
و"عُبيدة" كما كانت تُحب تسميته..
كانَ ينتظرها كلّ يوم، عند عودتها من الجامعة.
يسألها .. أحضرتِ لي حلوى.. صَح؟
تذوب هي وهي تسمع حُروف "صح" هذه مع نشوة الفرح والترقب في عينيه!
وكالعادة تسمع كلمات أمّه وهي تنهره من الأعلى على جرأته هذه!
ومثل كُل مرة تخبرها: هو في مقام أخي يا خالة!
تُعاود نظرها إليه.. تركع قليلًا على رُكبتيها..
تبتسم وتخبره .... امممم وكيف أنسى أميري الصغير عُبيدة؟؟
طبعًا .. أحلى حلوى لأحلى بَطل.. هات يداك.
أميرها عُبيدة ما عاد ينتظرها مُنذ أسبوع وأكثر..
بعدما اعتادت على ابتسامته ولهفته وفرحه منذ عام وأكثر ..
حين انتقلت للبيت الجديد مع أسرتها.
قبل نومها.. تُعاتبه ولا يعود .. تتَصبّر وتَحكي لنفسها.. هو بخير الآن بخير!
بالتأكيد التقى بقافلة الشهداء ... قافلة رابعة.
أضحت ترى صوره وفقط.
قتلو الصّغير المَرح..
صاحب الضّحكة السّاحرة..
أطلقوا في رأسه رصاصة حقد..
تمامًا كما فعلو مع صديقتها ومع الآلاف منذ شهور.
وكأنّ ضحكته تُرعبهم!!
قفزاته في المَسيرة، حملِهِ لزُجاجة الماء التي تصل لفوق رُكبته إن وقف جوارها.
وحماسه.. وكرمه مع كل من يطلب شربة ماء ..
كل هذا أرهبهم .. يا لهُ من إرهابيّ كبير بأفعاله هذه!!
نعم صغيرها إرهابيّ!!
في نظر زبانية الحقير!
سُحقًا لهم.. ولمن أحبّهم.. وفوّضهم..
عليكم نار السَمُوم تأكل قُلوبكم وتحرقكم في الدنيا قبل الآخرة.
كانت تشعر وكأنّ بركان يغلي في جوفها..
قهر وعجز .. حزن كاد أن يفتّ عظامها ..
تشعر وكأنها أضحت عجوز.. مُقنعة فقط بوجه فتاة عشرينية مُتورّدة الجبين!
تحسب الأيام، ونهاية كل يوم تتساءل .. كيف ما زلنا نتنفس بعدهم!
تنهرها صديقتها إذا تمتمت بهذه الكلمات أمامها.
تكتمها أمام الجميع.. لكن عقلها يضجّ بها وبغيرها.
ضحكت بمرارة وهي ترى مهرجان الإعدامات التي يُوزّعها قضاء بلادها "الشااامخ" !!
بالمئات بالمئات ... وغدًا نستيقظ من نومنا على صدور حكم بإعدام الجميع.
{أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] !!
تتلو الآية برتابة.. الموقف ذكَّرَها بها..
ثم تتوقف فجأة .. أصادقةٌ هي حين تستعين بآياته، أراضية هي عنه!!
وما هو الرّضا الحقيقيّ عن الله!؟
(3)
تحاشت ما استطاعت فتح حاسوبها ..
فقد ارتقت والدة أسماء صديقتهم اليَوم ..
أنهت غُربتها أخيرًا.. قضت واجبها المُقدّس هُنا في هذه الأرض ..
لتَلحق بزَوجها هُناك في أعلى عليين.. بإذن الله.
بعدما تركت ذرّية تَوحد الله .. وتعرفه .. وتصدح بذكره.
لحظة.. وأنتِ ... لأيّ درجة تعرفينه.. الله!؟
(4)
تبتسم حين تذكرهم..
هم فعلًا من أبناء هذا الزمان وليس قديم الزمان!
الزوجة مواصلة إضرابها عن الطعام لما يزيد عن الخمسين يومًا.
نعم.. هي خارج أسوار الطُغاة.. في بيتها!
مُضرِبَةً عن الطعام مع زوجها، رفيق قلبها ودربها، سكن رُوحها.
المضرب مُنذ أكثر من مئة يوم..
الأمر بالنسبة لها لا يتعلق أبدًا بأسئلة ساذجة تدور حول:
"ماذا بعد إضرابها؟ أتظن أنهم ينظرون ويرأفون لحالها وحاله هكذا؟!"
هي تعلم جيدًا أنهم قتلة.. أوغاد ..
لا يفقهون في الحياة معنى سوى العبودية والذل.
كل ما في الأمر.. أنّ ثمّة نبض صادق تحمله في طيّات قلبها ..
وُدّ .. لا يستطيع أحد إيقافه لأنّه مُكلل برحمة سماويّة ..
ولن يستوعب أو يتخيل القليل من روعته إلا من يعيش مثله.
يلومونها على إضرابها .. وتلوم هي نفسها لأنها تأخرت عنه كل هذا!!
لأنها لم تكن كلمات جوفاء تُرددها عليه حين كانا معًا..
كان رُوحها ونبض قلبها، ومعنى الفرح في حياتها باختصار.
عبدُ الله الشامي، زوجها المُراسل، الذي قال من مَحبسه:
"في هذه الأثناء ولساعات مضت انقطعت عن شرب الماء!
إلّا ما يكفيني لأكمل هذا الطريق.. طريق سأكتب كل تفاصيله بنفسي حتى النهاية..
وحتى لو كانت النّهاية الموت، فيكفيني أنني قد اخترت قرار حُرّيتي وما تزحزحت عنه".
زوجها الذي قال:
"أنا لستُ رقمًا في سجلاتكم، ولا خبرًا مكذوبًا تنشرونه لطمس الحقيقة..
أنا صاحب إرادة، وسأنتصر على الحواجز والعوائق، ولا يهمني أن يعرفني النّاس
بقدر ما أريد أن تصل الرسالة، ومن رأى عظيم الله في صنعه لن يعبأ بصُنع البشر".
هُنا .. ضجّت الأسئلة في رأسها الصغير أكثر.. تُراه ماذا يقصد؟
أيّ درجة وصلها لمعرفة الله، ورُؤية عظيم صُنعه!!
----------------------------
بقلم أمل ناجح
- المصدر: