حدثٌ في السويد !
منذ 2008-10-21
من روائع القصص .....
جمعتنا ليلة حبيبة إلى قلبي، وقلوب الصالحين، ذكرتنا أيامنا الخوالي، تلك الأيام والليالي التي كنا نتنفس فيها عبق الإسلام الندي، المعطر بذكر الله تعالى، ذلك أن أخانا الشيخ / فوزي بن أحمد السبتي الغامدي خرج بحمد الله تعالى، معافى بعد أن أُجريت له عملية جراحية صعبة، أجراها أخونا الطبيب العالمي، استشاري جراحة المخ والأعصاب الدكتور / أحمد عمار، الطبيب بمجمع الملك فهد الطبي العسكري بالظهران، وله الشهرة البالغة عالمياً في هذا التخصص، يشهد بذلك كبار الأطباء في كبرى المستشفيات، وقد سمعت من أخي الحبيب: يحيى بن علي الغزواني، أن اللواء الطبيب الفاضل: خلف بن ردن المطيري مدير مستشفى الرياض العسكري ، يثني عليه ثناء كبيراً .. أعجبني وفاء الشيخ / فوزي، وأخلاقه الإسلامية الرائعة، عندما علمت بأن هذه المناسبة هي تكريم لهذا الدكتور الفاضل.
ابتدأ الشيخ ليلتنا بكلمة طيبة، قصيرة في كلماتها، لكنها عظيمة في معانيها، أثنى فيها على الله تعالى، وأرجع الفضل كله لله، وما الدكتور أحمد إلا سببٌ جعل الله الشفاء على يديه (هكذا قال)، وكان مما قال أيضاً: إني لا أحتفي هذه الليلة بسعادة الدكتور أحمد عمار؛ لأنه شفاني، فإنما يشفي الله تعالى، ولا لأنه عالجني، فهذا واجبه وهذه مهنته، فهو يعالجني ويعالج غيري! وهذا عمله، ولكنني أحتفي به لما رأيت من أخلاقه العظيمة، ونبله، وشفقته عليّ وتعهده لي بالنصائح، وإن كان قد آذاني بطلبه مني المشي مبكراً قبل أن أستعيد توازني !، قالها على سبيل الدعابة، ثم ختم كلمته بالثناء على الله عز وجل، والدعاء لهذا الطبيب بأن يوفقه الله في الدنيا والآخرة، وتقديم درع تذكاري بهذه المناسبة.
قلت في نفسي: ليت الدكتور أحمد يتحفنا بكلمة ولو لمدة خمس دقائق، فما كدت أنتهي من تفكيري حتى تنحنح الدكتور وتكلم بكلام أحسب أني سمعته بكل مسامات جلدي، وليس بأذنيّ فحسب !، كلام يقطر منه الأدب الجمّ، والإخلاص الناصع، والهدوء والاتزان، والغيرة على الإسلام، والأخلاق الإسلامية للطبيب المسلم، أتريدون أن أُسمعكم ماذا قال !،
فاقرؤوا إذن !
قال الدكتور:
" الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أشكر الشيخ فوزي على ما بذل، ولقد لفت انتباهي في كلمته قوله: "إنما يشفي الله تعالى" ...يا إخوة ! كنت أدرس جراحة المخ والأعصاب في السويد عام 1979م أي قبل ست وعشرين سنة، وفي ذات يومٍ طلبني أحد كبار الأطباء هناك في المستشفى الذي أعمل فيه؛ لنقوم بإجراء عملية جراحية لاستئصال ورم سرطاني في دماغ امرأة قد جاوزت الأربعين من عمرها، فاستعنت الله تعالى وقمت بمساعدة هذا الطبيب في إجراء العملية، وقد استغرقت منا وقتاً ليس بالقصير؛ حتى تمكنّا ولله الحمد من إزالة الورم، وشفيت المرأة بفضل الله ... ثم بعد عشرة أيام دخلت عليها في غرفتها؛ لأقوم بنزع (الغرز) من رأسها، وبينما أنا أعمل على إزالتها حركتُ مرفقي بلا شعور مني فدفعتُ صورة كانت بجوارها فوقعتْ على الأرض، فأهويت لكي أرفعها فإذا هي صورة كلب! فرفعتها على كُرهٍ مني! فرأيت الامتعاض في وجهها، فقلت لها: إنه كلب!، فقالت: نعم؛ ولكنه الشخص الوحيد الذي ينتظر عودتي إلى البيت!. فعلمت أنه ليس في حياتها من يفرح لفرحها أو يحزن لحزنها إلاّ هذا الكلب!، فسألتني: من أين أنت؟! فقلت: من مصر، عربيٌ مسلم!، فأخذت تسمعني الازدراء لوضع المرأة عندنا، وكبت حريتها كما زعمت..
فقلت: إن المرأة عندنا مكرمة مصونة، فهي كالجوهرة الغالية النفيسة، كلٌ يخدمها ويحوطها، زوجها يخدمها، وأبوها، وأخوها، وابن أخيها، وابن أختها، ... كلهم في خدمتها، ولا تخرج إلى سوق أو عمل إلا ومعها أحد هؤلاء، حفاظاً عليها..
ليس شكاً فيها فحاشاً وكلا *** غير أنّا نريدها في علاها
نجمة لا تنالها أعيُنُ الناس *** تراها مصونة في سماها
جعل لها الإسلام مكانة ليست لنساء الدنيا كلها، وما حفاظنا عليها إلا لعظيم قدرها في قلوبنا، لا لشكٍ فيها، فهي محل الثقة، لكنها كالوردة الجميلة التي لا يجوز لكل الناس أن يشموها حتى لا تفسد! وإذا مرضت ... فإنها تجد أهلها كلهم حولها، يحفون بها، ويخدمونها، ويراقبون أنفاسها، ويعتنون بها غاية العناية، ولا تكادين تجدين موطأ قدم في غرفتها لكثرة من يقوم بخدمتها من أقربائها، وإذا خرجت من المستشفى فإن هناك جيشاً من أهلها في انتظارها؛ فيفرحون لفرحها، ويسعدون لسعادتها؛ وليس كلباً في انتظارها كحالك!. فغضبت.. واتهمتني بأنني متخلف وسطحي، وليس لدي من مقومات الحضارة شيء.. فابتسمت وخرجتُ من غرفتها بعد أن أنهيت عملي!.
ثم فوجئتُ بأن تلك المرأة تشكوني إلى كبير الأطباء وتطلب منه عدم دخولي عليها مرة أخرى!، بل وترغب في الخروج من المستشفى. فقلت:
لابد من بقائها يومين على الأقل حتى أتمكن من إنهاء علاجها وأعمل لها تحاليل طبية. فأصرت على الخروج وخرجتْ
نسيت أنا ذلك الموقف تماماً، فليست أول غربيٍ أسمع منه هذا الكلام، ولن تكون الأخيرة!. وفي ليلةٍ، فوجئت باتصال من الطبيب المناوب بقسم الطوارئ يخبرني بوجود حالة غريبة لا يعرف كيف يتصرف معها، فسألته: ما هي؟ ... فأخبرني أنها امرأة لديه حالة تشنج مستمر، يأتيها بمعدل كل خمس دقائق .. فأسرعت إلى المستشفى في منتصف الليل، ففوجئت بأن المريضة هي نفسها تلك المرأة ! وكنت قد نسيتُ موقفها معي تماماً، فأدخلتها غرفة العمليات، وقمت بإجراء عملية لها في الدماغ، استغرقت وقتاً طويلاً، وتمت بنجاح والحمد لله، ثم.. دخلت عليها بعد إفاقتها، فرفعت رأسها ونظرت إليّ، وتكلمت بلسان ثقيل:
- أنت الذي أجريت لي العملية ؟
- نعم.
- وسهرت بجواري طوال الليل.
- نعم؛ لأن هذا واجبي
- يعني هذا أنك أنت الذي شفيتني!
- لا
- من إذن؟ هل كان معك أحد؟.
- نعم، إنه الله عز وجل، هو الذي شفاك، وإنما أنا سبب، أنا الذي عالجتُ فقط.
- أنت لا تزال رجعياً، تؤمن بالخرافات، وما وراء الطبيعة، أعجب لك وأنت طبيب مثقف كيف تصدق مثل هذه الأمور؟
- وأنا أعجب لك وأنت تدعين الثقافة، كيف لا تقرئين عن الإسلام، وتجوزين لنفسك إلقاء التهم جزافاً..؟! ..وغضبت جداً من كلامها ولكن أملي كان يحدوني تجاه تحملها علها تهتدي، ثم ودعتها وانصرفت، وبعد أيام خرجتْ - تلك المرأة من المستشفى، وبعد قرابة ستة أشهر، أخبرني أحد العاملين معنا أن هناك امرأة تريدني على الهاتف ...
رفعتُ السماعة ..
- نعم ، من المتحدث؟
فإذا بها تلك المرأة نفسها، وقد تبدلت نبرة حديثها، لكنها تطلب مني أمراً غريباً..
- أريد أن أراك... هل تستطيع أن تطلب إجازة من عملك، وتأتي إلينا في (لوند) لمدة يومين؟
- فاعتذرت؛ لأن عملي متواصل دائماً بلا انقطاع.
فألَحّت عليّ، فامتنعتُ، فطلبت مني طلباً غريباً:
- ما اسم أمك؟
"فقلت في نفسي: لعل هذا من آثار العمليات الجراحية التي أجريت لها، هل سببت لها خللاً في التفكير؟"
- لماذا تريدين اسم أمي؟
- قالت بصوت متهدج لأني: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.. وأنا أسلمت، وعرفت طريق الحق .. وأنت لك حقٌ عليّ، وأريد أن أسمي نفسي باسم أمك.. أنت الذي دللتني على الطريق الحق ... ومن حقك أن أذكرك دائماً بخير..
(فضج مجلسنا بالتكبير والتهليل )..
قال الدكتور : فكادت سماعة الهاتف تسقط من يدي، ثم سكت فجأة .. فالتفتُ إليه فإذا عيناه تفيضان بالدمع ! وأخذته بحةٌ في صوته ، فأكمل حديثه بصعوبة بالغة .. قال:
فذهبت إلى رئيسي في المستشفى؛ لأطلب منه إجازة يومين . فقال لي: أنت يا دكتور أحمد الطبيب الوحيد الذي لم يحصل على إجازة منذ سنتين ! خذ أكثر. قلت: لا .. يومان كفاية .
فذهبت إليها، فإذا هي امرأة غير تلك المرأة التي كانت تعظم صورة كلبٍ بجوار رأسها في المستشفى، امرأة تبدلت وتبدل فيها كل شيء، كلامها، ولبسها، نظرتها للحياة..
ذهبت معها إلى المحكمة، برفقة زميلين لي؛ لنشهد إشهار إسلامها، وهناك وسط قاعة المحكمة صدحت بكلمة الإسلام: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.. وقرأت الفاتحة قراءة ملؤها البراءة والطهر..
فانفجرت بالدموع العيون، وخشعت النفوس، وبكينا بكاء الطفل، من شدة الفرح، وكيف لا نفرح وقد شهدنا ميلادها الحقيقي، وخروجها من الظلمات إلى النور،.. وكيف لا أبكي فرحاً وقد أراني الله تعالى من كنتُ سبباً في إسلامها، وإنقاذها من النار ..
قمت وزميليّ وصلينا ركعتين شكراً لله، وصلت هي خلفنا بصلاتنا ! قالت لي:
أتذكر يا دكتور أحمد تلك الصورة لذلك الكلب الذي كدتُ أكتب له كل ثروتي ؟!
قلت: نعم
قالت: فإني أتلفتها، وأنفقت كل أموالي في سبيل الله .. وبنيت منها أكبر مركز إسلامي هنا ..
* * *
هنا .. وضع الدكتور أحمد يده على عينيه .. يصارع دمعاً يريد أن يقفز من محاجره.. وقد بدا عليه التأثر.. وأنهى كلامه بهذه الجملة .
نظرت إلى الحضور ، وقد شع نور الإيمان من وجوههم، وأخذوا في الثناء والدعاء لهذا الطبيب المسلم الذي ما نسي ثوابته حتى في أحلك الظروف، في الغربة في أقصى الأرض، هذه أخلاق الطبيب المسلم وحب هداية الناس، تمثلت هذه الليلة في هذا الطبيب المعتز بإسلامه..
أما أنا فأحسست بغصة في حلقي، ثم تشجعت وطلبت من الدكتور أن يأذن لي بكتابة هذه القصة، فأذن لي ..
فهذه هي قصته ، كتبتها من غير تعليق .
موسى بن محمد بن هجاد الزهراني
الظهران - الخميس 2-5-1426هـ
المصدر: منقول
- التصنيف: