الهجرة العملية
إن الهجرة لها معانٍ جليلة، من وقف عليها يزداد بصيرة في دينه، وثباتًا عليه، وشوقًا إلى أهلها الذين هاجروا، تاركين الأهل والأولاد، ويعلم أن الإسلام ما وصل إلينا، على ضفاف الأنهار، ولا بغرس الأشجار، بل وصل إلينا عبر رجال امتزج الإسلام بدمائهم، فراحوا يدافعون عنه، بكل ما يملكون.
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، ييسر عسيرًا، ويجبر كسيرًا، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا، سبحانه وبحمده، جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها ليوم كان شره مستطيرًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه بالحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فصلوات الله وبركاته عليه، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
فإن الهجرة لها معانٍ جليلة، من وقف عليها يزداد بصيرة في دينه، وثباتًا عليه، وشوقًا إلى أهلها الذين هاجروا، تاركين الأهل والأولاد، ويعلم أن الإسلام ما وصل إلينا، على ضفاف الأنهار، ولا بغرس الأشجار، بل وصل إلينا عبر رجال امتزج الإسلام بدمائهم، فراحوا يدافعون عنه، بكل ما يملكون.
والمتأمل لحادث الهجرة يجد ذلك الكلام واقعًا حيًا متمثلًا في الصحابة الذين تركوا الدور والأوطان، وهجروا ملاعب الصبا، من أجل أن يفروا بدينهم من ظلم سدنة الكفر، وعباد الأوثان من قريش، الذين ساموهم الصاب والعلقم.
فالهجرة في اللغة: هي مفارقة الإنسان غيره، بدينه، أو قلبه، أو بلسانه.
واصطلاحًا: ترك الوطن -يعني الإقامة والتوطن- الذي بين الكفار، والانتقال إلى دار الإسلام.
والهجرة من ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] أي مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان، وقد هاجر ببعض ذريته إلى الشام حيث البلاد المقدسة، والمسجد الأقصى، والبعض الآخر إلى بلاد الحجاز والبلد الحرام: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:32].
فالهجرة سنة ماضية على جميع الأنبياء، هاجروا لتأدية العبادة على وجهها الصحيح لرب العالمين، وهاجروا حتى تكون الدعوة آمنة فلا تطيلها آيادِ العابثين، ودافعوا عن عقيدتهم، وأخذوا بالأسباب في هجرتهم إلى مولاهم مع اعتمادهم وتوكلهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى.
فالمسلم مأمور وجوبًا بالهجرة إلى ربه من بلاد الكفار إذا كان غير قادرًا على إظهار دينه، وأما إذا كان قادرًا على إظهار دينه وليس هناك شيء يعارض إقامة شعائر الإسلام فإن الهجرة لا تجب عليه ولكنها تستحب، كما قال العلماء رحمهم الله، وإذا كان الإنسان من أهل الإسلام وفي بلاد المسلمين فإنه لا يجوز له أن يسافر إلى بلد الكفر لما في ذلك من الخطر على دينه وعلى أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله وتقوية اقتصاد الكفار ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع كما قال الله تبارك تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وقال تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة من الآية:120].
وذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في أنه لا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة:
"الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، لأن الكفار يوردون على المسلمين شبهًا في دينهم وفي رسولهم وفي كتابهم وفي أخلاقهم، في كل شيء يوردون الشبهة ليبقى الإنسان شاكًا متذبذبًا، ومن المعلوم أن الإنسان إذا شك في الأمور التي يجب فيها اليقين فإنه لم يقم بالواجب، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره يجب أن يكون يقينًا فإن شك الإنسان في شيء من ذلك فهو كافر.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات لأن الإنسان الذي ليس عنده دين إذا ذهب إلى بلاد الكفر انغمس لأنه يجد زهرة الدنيا هناك، من خمر وزنى ولواط وغير ذلك.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجًا إلى ذلك مثل أن يكون مريضًا يحتاج إلى السفر إلى بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجًا إلى علم لا يوجد في بلاد الإسلام تخصص فيه فيذهب إلى هناك أو يكون الإنسان محتاجًا إلى تجارة، يذهب ويتجر ويرجع المهم أن يكون هناك حاجة ولهذا أرى أن الذين يسافرون إلى بلد الكفر من أجل السياحة فقط أرى أنهم آثمون، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم وإضاعة لمالهم وسيحاسبون عنه يوم القيامة حين لا يجدون مكانًا يتفسحون فيه أو يتنزهون فيه" (أ.ه- بتصرف من شرح رياض الصالحين).
وقد يعترض معترض ويقول وأين دعوة هولاء وخروجهم من حمئة الكفر والرذيلة، أليس دعوتهم في بلادهم أمرًا واجبًا؟
يجيبك الشيخ العثيمين رحمه الله ما مضمونه: "السفر إلى بلاد الكفر للدعوة يجوز إذا كان له أثر وتأثير هناك فإنه جائز، لأنه سفر لمصلحة، وبلاد الكفر كثير من عوامهم قد عمي عليهم الإسلام لا يدرون عن الإسلام شيئًا، بل قد ضللوا وقيل لهم إن الإسلام دين وحشية وهمجية ورعاع، ولا سيما إذا سمع الغرب هذه الحوادث التي جرت على يد أناس يقولون إنهم مسلمون سيقولون أين الإسلام؟ هذه وحشية فينفرون من الإسلام بسبب المسلمين وأفعالهم، نسأل الله أن يهدينا أجمعين" (أ.ه- شرح رياض الصالحين).
وبعض إخواننا -هداهم الله- يَهْجُر بلاد المسلمين ويُهاجِر إلى بلاد الكافرين بحجة أن في أروبا توجد الآن صحوة إسلامية كبيرة واسعة لا نظير لها في البلاد الإسلامية، والشباب المسلم يتعرض لمتاعب اقتصادية وأمنية مما يجعل الكثير منهم يفكر في الهجرة إلى بلاد الغرب، هل هناك صحوة إسلامية حقيقة في الغرب؟ الجواب: هناك صحوة نسبية، والوجود الإسلامي في الغرب ما هو إلا قطرة في بحر لجي من الفتن يغشاه موج من فوقه موج من فوقه ظلمات، فالوضع ليس كما نحاول أن نقنع به أنفسنا، فالإخوة هناك غرباء في الدين، وغرباء عن الوطن، وكل أنواع الغربة تحققت فيهم، ونحن نعرف قصة الرجل الذي رأى حمارًا وهو يريد أن يأكل الحمار فقال: "ما أشبه أذنيه بأذني الأرنب"! فهو يريد أن يقنع نفسه حتى يأكله.
وهكذا بعض الإخوة يريد أن يبيح لنفسه أن يذهب إلى تلك البلاد للإقامة؛ فيحاول أن يتخذ لنفسه هذه المعاذير، فيقول: إن هناك إخوة في المركز الإسلامي، لكن جميع الإخوة -بلا استثناء- يعانون أشد العناء، وما من أخ إلا وأمله الأسمى في الحياة أن يعود إلى بلاد المسلمين، لكن المشكلة أنه تعود على نمط الحياة هناك، ويرى أن عليه أن يتكيف على الأوضاع هنا إذا عاد، ويطلع على سوء أخلاق الناس وشدة الحياة، وغير ذلك من عوامل التنفير، لكن العاقل دائمًا يعرف كيف يزن الأمور ويحسن تقدير العواقب.
فالذي يظن أنه سيذهب هناك ويحصل بعض المصالح بدون أن تمسه هذه الفتن أشبهه بطائر يريد أن يأخذ الحبة من الفخ، فأين ذلك الطائر الذي يستطيع أن يلتقط الحبة دون أن يقع في الفخ؟! ولأننا مسلمون لا تناسبنا الحياة في تلك البلاد، ولا تصلح لأمثالنا، فتلك البلاد لا تصلح لمن عنده دين ولا لمن عنده أخلاق..
حتى الناس الذين ليس عندهم دين في أوروبا أو أمريكا إذا وصل ابنه إلى التاسعة من عمره يسافر به إلى بلاد المسلمين ثم يعود؛ لأنه يعرف المصير المدمر المقطوع به إذا بقي بأولاده في تلك البلاد، فهم يعيشون في جحيم في الحقيقة، ولا تتصور الصورة المزيفة التي تعطى للشباب عن تلك البلاد، إن من يدخل هناك يكفر، لكن لا تنس أن الشباب الإسلامي الذي يتواجد هناك في المراكز الإسلامية قليل جدًا، ولو قارنت بين الذين يترددون على المساجد ويحافظون على دينهم وبين الذين يذوبون في الطوفان المدمر ويضيعون تمامًا ويتركون دينهم وأخلاقهم وكل شيء لرأيت النسبة بعيدة، فالأصل أن الناس هناك يفتنون، والذي ينجو نادر.
فالشاهد أن تلك البلاد لا تصلح لمعيشة المسلم الذي يريد أن يحافظ على دينه، لكن يكفينا قول النبي عليه الصلاة والسلام: « »، قالوا يا رسول الله، ولم؟ قال: « » (رواه أبو داود والترمذي في سننهما وصححه الألباني في صحيح السنن)، وقوله عليه الصلاة والسلام: « » (رواه الطبراني في المعجم الكبير وحسنه الألباني في الصحيحة).
ونحن نعلم حديث الرجل الذي قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فدل على راهب فسأله: "هل لي من توبة؟ فقال له: وأنى لك التوبة؟! فقتله وكمل به المائة، فهو آيسه من رحمة الله، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على العالم، فقال: من يحول بينك وبين التوبة؟! وبعد أن أرشده إلى التوبة ورغبه فيها، أمره بالتحول وتغيير البيئة، فقال: هناك بلدة فيها قوم صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولما أتت الملائكة لتقبض روحه اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فملائكة العذاب قالت: لم يعمل أي شيء من أعمال الخير، وملائكة الرحمة تقول: أتى تائبًا إلى الله عز وجل.
فاتفقوا على أن أول قادم عليهم يحكم بينهم، فقيض الله ملكًا، فحكم أن يقيسوا المسافة، فهل هو أقرب إلى البلدة الصالحة أم البلدة غير الصالحة، وفي بعض الروايات أنه لما قبض اقترب بشبر، فزحف حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، وقد يكون هذا سببًا من أسباب نجاته، وفي رواية أن الله أمر الأرض أن تمتد حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، وعندما نتذكر هذا الحديث ونحن نتكلم عن الهجرة إلى بلاد الشياطين والكفار وأصحاب الجحيم والسعير نرى أن الذي يسأل الناس هنا أكرم له وأفضل من أن يذهب هناك فيفسد دينه، ويفسد -أيضًا- دنياه، فتكون دنياه لا بركة فيها.
فأين نحن من هذا الحديث؟ هذا الرجل جاهد حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، فما أبعد المسافة بين بلاد الكفار وبلاد المسلمين، فلماذا تذهب هناك؟! نعم هناك نشاط إسلامي، والإخوة هناك ينقسمون إلى معذورين وآثمين، هناك معذورون من بعض المسلمين، هم من بلادهم مطرودون، وما هناك بلاد تؤويهم، فلا حرج عليهم حينئذ لأسباب كثيرة، لكن لا شك في أن هناك قسمًا كبيرًا جدًا من الآثمين الذين لا يحل لهم بأي حال من الأحوال البقاء فيها، وأنا أكرر كلمه قالها بعض المشايخ لإخوة سافروا إلى أروبا، قال لبعض إخواننا لما كان هناك في أوروبا: لا أقول لكم: إنكم تغرقون، بل أنتم في الحقيقة غرقى، وضرب لهم مثلًا فقال: لو أن عندنا مليار مارك-وهي العملة الألمانية- فأخذت منه ماركًا واحدًا، فكم خسر المليار؟ إن المليار لم يخسر شيئًا، لكن كم خسر المارك؟ لقد خسر المليار.
يعني أن الإنسان حين يخرج من المجتمع الإسلامي يخسر كل هذا المجتمع، والمجتمع لا يخسر شيئًا، الخاسر في الحقيقة هو، وأنا أقول هذا ونحن نعيش في الفتن، ونعاني جميعًا كل العناء، لكن من أراد إلا التحول فأرض الله واسعة كما أخبر الله، فيهاجر إلى مكان أفضل أمنًا، وأفضل من حيث الرزق، وأفضل من حيث الدين، ولا يذهب إلى مكان أسوأ، فالعاقل يختار ما هو أحسن، ويقدم الدين على الدنيا، فأرض الله واسعة، فيجتهد في الهجرة إلى أي بلاد من بلاد المسلمين بعيدًا عن هذا الجحيم في الغرب (أ.ه- شريط المستقبل للإسلام د/ محمد اسماعيل).
وقد ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره نقلًا عن ابن العربي رحمه الله أن العلماء قسَّموا الهجرة إلى قسمينِ، هجرة هُروب وهجرة طلَبٍ، وأن هجرة الهروب ستة أقسام:
1- الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. وكانت فرْضًا أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهي باقية مَفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي حيث كان، فإنْ بقِي في دار الحرب عَصَى، ويُختلف في حاله.
2- الخروج من أرض البِدْعة. قال ابن القاسم: "سمعتُ مالكًا يقول: لا يحلُّ لأحد أن يُقيم بأرضٍ يُسَبُّ فيها السلَف".
قال ابن العربي: "وهذا صحيح، فإن المنكَر إذا لم تَقْدِر أن تَغيرَه فزُلْ عنه، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
3- الخروج مِن أرض غلَب عليها الحرام، فإنّ طلَبَ الحلال فرْضٌ على كل مسلم.
4- الفِرار مِن الإصابة في البدَن. وذلك فضْلٌ مِن الله رخَّص فيه، فإذا خشِيَ على نفسه فقد أذِنَ الله في الخروج عنه والفِرار بنَفسه ليُخلِّصها مِن ذلك المَحْذور، وأول مَن فعَله إبراهي عليه السلام فإنه لمَّا خاف من قومه قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] وقال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي} [العنكبوت من الآية:26] وقال الله مُخْبرًا عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص من الآية:21].
5- الخروج خَوفَ المرَض في البلاد الوَخِمة إلى الأرض النزِهة.
وقد أذِن النبي صلى الله عليه وسلم للرُّعاة حين استَوخَموا المدينة أن يَخرجوا إلى المَسْرَحِ فيكونوا فيه حتى يَصِحُّوا، وقد استُثنيَ مِن ذلك الخروجُ مِن الطاعون فمنَع الله منه بالحديث الصحيح عن نبيِّه، غير أن العلماء قالوا: "إنه مَكروه".
6- الفِرار خوْفَ الأذِيَّة في المال، فإن حُرمة مال المسلم كحُرمة دمِه، والأهلُ مِثلُه وأَوْكَدُ.
ثم تحدث عن هجرة الطلَب وقسَّمها قسمينِ، طلَبَ دينٍ وطلَبَ دُنيا، والأول يتعدَّد بتعدُّد أنواعه إلى تِسعة أقسام:
"1- سفَر العِبْرَة وهو كثير، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [الروم من الآية:9].
2- سفر الحَجِّ. وسفَر العِبْرة وإنْ كان نَدْبًا فسَفر الحج فرْضٌ.
3- سفر الجهاد. وله أحكامه.
4- سفر المَعاش. فقد يتعذَّر على الرجل مَعاشه مع الإقامة فيَخرج في طلبه لا يَزيد عليه، بصَيد أو احتطاب أو غيرهما، فهو فرْض عليه.
5- سفر التجارة والكسْب الزائد على القُوت والحاجة، وذلك جائز بفَضل الله كما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة من الآية:198]، وهي نعمة مَنَّ اللهُ بها في سفر الحج، فكيف إذا انْفَرَدَتْ؟
6- سفرٌ في طلَب العلْم، وهو مَشهور.
7- سفرٌ لقَصْد البقاع الخيِّرة، ومنه حديث: « » (رواه البخاري ومسلم).
8- سفرٌ لقصْد الثُّغُور والمُرابطة فيها مِن أجل الجهاد.
9- سفر لزيارة الإخْوان في الله، كما في الحديث الذي يدلُّ على أن مَلَكًا أرصَدَه الله في طريق رجل ليَزور أخاه في الله، وبَشَّرَهُ بالجنة" (رواه مسلم)، (اهـ، 5/ 349-351).
والهجرة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وهي باقية إلى قيام الساعة، وشأنها عظيم، لا عمل يعدلها، ولا وظيفة تساويها، كما في الحديث الذي أخرجه النسائي بسند صحيح من حديث أبي فاطمة الليثي رضي الله عنه قال: "يا رسول الله! حدثني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »، ومن له بالهجرة والقدرة عليها، إلا قوي العزم والإرادة، وهل يقدر عليها كل أحد؟ لا يُقدر عليها إلا ببذل النفس لها، وشحذ الهمة للوصول إليها، ألهذه الدرجة أمر الهجرة؟ الجواب: نعم. لأن أمر الهجرة شديد، لأن بعض الناس يظن أنه مهاجر وليس كذلك وإنما هو مهجَّر قال عمر: "هاجروا ولا تهَجَّرُوا"، قال أبو عبيد: "يقول أخلصوا الهجرة لله ولا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحة منكم".
روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن أعرابيًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: « » قال نعم. قال: « ».
قال الخطابي رحمه الله في معالم السنن: "وقوله لن يَتِرك معناه لن ينقصك ومن هذا قوله تعالى: {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد من الآية:35]، والمعنى أنك قد تدرك بالنسبة أجر المهاجر وإن أقمت من وراء البحار وسكنت أقصى الأرض، ومن أعظم ما في الهجرة ما رواه البخاري ومسلم من حديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »"، وفقه هذا الحديث كما يقول ابن حجر في الفتح: "أن الإقامة بمكة كانت حرامًا على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج وعمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها".
وكان صلى الله عليه وسلم يرثى لحال من تخلف عن الهجرة كـ(سعد بن خوله، وبعض الصحابة) مرض مرضًا شديدًا أشفى فيه على الموت فبكى تجشعًا لفراق النبي صلى الله عليه وسلم، وخشيته أن يتخلف عن الهجرة وهو (سعد بن أبي وقاص) قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أخلف بعد أصحابي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: « » لكن البائسَ سعد بن خوله يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة " (رواه البخاري)، قال ربنا عز وجل: {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:100].
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: "هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا" (1/ 393).
والرجوع في الهجرة مؤلم، لأنك بذلت شيئا لله، وعقدت عزمك على إصلاح نفسك بهذ الهجرة، فالرجوع يفسد كل هذا لأن المهاجر بهجرته يقوم بإصلاح عقيدته وعقائد غيره، فالمجتمع لا بد أن يهاجر إلى الله بترك القبيح، وفعل الحسن، وشاهد ذلك أن الهجرة إنما كان وجوبها على من أطاقها دون من لا يقدر عليها.
وحماية الناس إنما تكون بأمرين:
1- بذل الواجب: بحيث يسمح للدعاة والعلماء وطلبة العلم بشر الحق وتوعية الخلق وأن لا يحول أحد بين الناس وبين المخلصين من دعاتهم وعلمائهم في تربيتهم وتعليمهم سبل الخير.
2- منع الخلل: وأعني به منع الفساد والأخذ على أيدي المفسدين الذين لا يعظمون حرمات الله، ولا يوقرون أمر الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يتحقق إلا بالهجرة، أعني أن تهاجر الجماهير المسلمة إلى ربها سبحانه وتعالى هجرة جماعية، فإن فعلت حصلت لها هذه الحماية، وإذا تأملت معي هذه الأحاديث الثلاثة الآتية تبين لك معنى الهجرة وحرص الصحابة عليها، والخشية من الارتداد عنها، والنكوس على أعقابهم خوفًا من الارتداد عنها، وأن الإنسان قد يترك الأماكن الفاضلة خشية الفتنة في دينه.
الأول: حديث عمر بن عبد الرحمن بن جرهد قال سمعت رجلاً يقول لجابر بن عبد الله: "من بقي معك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بقي أنس بن مالك وسلمة بن الأكوع، فقال رجل أما سلمة فقد ارتد عن هجرته! فقال جابر لا تقل ذلك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأسلم: « »، قالوا يا رسول الله وإنا نخاف أن نرتد بعد هجرتنا، فقال: « »" (رواه أحمد في مسنده وقال الأرناوط حسن لغيره).
والثاني: حديث سعيد بن إياس بن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه: "أن سلمة قدم المدينة فلقيه بريدة بن الحصيب فقال ارتددت عن هجرتك يا سلمة؟ فقال معاذ الله إني في إذنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « »، فقالوا إنا نخاف يا رسول الله أن يضرنا ذلك في هجرتنا، قال: « »" (رواه الطبراني في المعجم الكبير).
والثالث: حديث يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع أنه دخل على الحجاج فقال: "يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك تعربت قال: لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو" (رواه البخاري في الصحيح).
فتأمل معي حال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في أن يسكن البادية، ومع ذلك أثبت له ولغيره أنهم مهاجرون حيثما كانوا، والذي جعل سلمة يتعرب أن ذلك حدث بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث سكن الربذة وتزوج وأنجب أولادًا، وقبل أن يموت بأيام رجع إلى المدينة ومات بها، وعامة أهل العلم على أن الهجرة باقية لا تنقطع، وهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وإنما الذي انقطع منها أنواع، وقال قوم: قد انقطعت الهجرة بكل أنواعها (موسوعة مسائل الجمهور:2/905)
وقول الجمهور هو المعتبر لصحيح وصريح السنة، وهي غير منقطعة ما دامت الروح تسري في الجسد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أبو داود في سننه والدارمي في مسنده وصححه الألباني في صحيح أبي داود).
فكل من لم يستطع إظهار دينه وجب عليه الهجرة إلى بلاد الإسلام، وكان القوم الأوائل يتركون كل شيء في مقابل أن يلحقوا بالنبي صلى الله عليه سلم في هجرته، فيطلبون حوائجهم على اختلاف أنواعها، وبعضهم يطلب حاجته، وقد تكون حاجته هي خوف عدم اللحوق بالمهاجرين، ويخشى أن تكون الهجرة انقطعت فيهدأ من روعه عليه الصلاة والسلام، ويخبره أنها باقية ببقاء قتال الكفار، ويجلي لنا ذلك، حديث عبد الله بن السعدي رضي الله عنه قال: "وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كلنا يطلب حاجة، وكنت آخرهم دخولًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني تركت من خلفي وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، قال: « » (رواه النسائي في سننه وصححه الألباني في صحيح الجامع).
والهجرة أنواع:
1- هجرة المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة.
ودليل ذلك قول ربنا عز وجل: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر بن عبسة رضي الله عنه عندما سأله أي الهجرة أفضل؟ قال: « » (رواه أحمد في مسنده وأصله في صحيح مسلم)، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري ومسلم)، وهي التي يسميها الشيخ العثيمين: بــ"هجرة العمل".
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "قال رجل يا رسول الله أي الهجرة أفضل؟ قال: « »، وقال: « »" (رواه النسائي وحسنه الأرناؤط في جامع الأصول) وحديث معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم جميعًا: "قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »" (رواه أحمد في مسنده وصححه الشيخ أحمد شاكر).
2- هجرة الكفار العصاة، والمشركين وأماكنهم، والمنافقين وحضور مجالسهم بالابتعاد عنهم.
ودليل ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل من الآية:10]، فلا يحل لمسلم أن يساكن خشية أن يتطبع بطباعهم، لأن الطبع سراق، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: « » قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: « » (رواه أبو داود في سننه من حديث جرير البجلي).
3- هجرة القلوب إلى الله تعالى إلى علام الغيوب بإخلاص العبادة له في السر والعلن، وبالجملة هجرة إلى الكتاب والسنة من الشركيات والخرافات والمقالات المخالفة للكتاب والسنة، وهي التي عناها ابن القيم بقوله: "والهجرة هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة، والتسليم والتفويض والخوف والرجاء، والإقبال عليه وصدق اللجأ والافتقار في كل نفس إليه، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أحد دينًا سواه، وكل نفس سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد" (أ.ه- طريق الهجرتين 1/20).
فلا بد من هجرة أماكن الكفر، وهجرة الأشخاص السيئين، وهجرة الأعمال والأقوال الباطلة، وهجرة المذاهب المخالفة.
قال العز بن عبد السلام: "الهجرة هجرتان هجرة الأوطان، وهجرة الإثم والعدوان، وأفضلهما هجرة الأثم والعدوان، لما فيها من إرضاء الرحمن وإرغام الشيطان" (نضرة النعيم 8/440).
نسأل الله أن يأخذ بنواصينا إلى الخير، وأن يجنبنا ما يسخطه أنه ولي ذلك ومولاه.
أبو حاتم عبد الرحمن الطوخي
باحث شرعي - داعية و إمام بوزارة الأوقاف المصرية
- التصنيف: