من سننه تعالى الحيلولة دون قطاف الظالمين
أنت تعبد من بيده الأمور، وبقدره تجري الأقلام وتتم الأحداث، كل يوم هو في شأن، فلا تنظر إلى الحدث الأخير بل اصرف بصرك إلى أبعد من ذلك، واسأل مع أبيك إبراهيم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.
1- أنه إذا ظن الناس القدرة والإحاطة بالأمر قُرْب تمامه، حتى ما يحول بينهم وبينه إلا القطاف، فيحول الله تعالى بينهم وبينه، ويحول الأحداث بعيدًا، ليستيقنوا تمامًا، ويستيقن الخلق أنهم لا يحيطون بالأمر لا علمًا ولا قدرة ولا نتيجة ولا غايات، وأن هناك إلهًا قاهرًا لا يحدث أمر إلا بإذنه، وأن الأمور إنما تقضى من فوق العرش.
قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس من الآية:24].
2- دبّرت المجموعة المفسدة في (ثمود) التي كان إفسادها خالصًا بلا شوب صلاح، دبرت أمر قتل نبي الله صالح عليه السلام ليلاً (بياتًا)، وجهزت الخطاب التالي بعد مقتله، بحيث بدا إتقان الترتيب، فكان هذا وقت إيذان الله تعالى بنجاة صالح، وراحته منهم، واكتمال مهمته في البلاغ، وهلاك القوم، ومقابلة تدبيرهم بتدبير: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ . قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ . وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ . فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:48-53].
3- دبّر كفار قريش مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريقة تبدو محكمة، يتفرق دمه الشريف بعدها وترضى بنو هاشم بالدية صاغرين وينتهي أمر هذا الدين ورسالته في الحياة، فكان هذا هو وقت ميلاد دولة الإسلام وخروج رسول الله والمؤمنين من حالة الاضطهاد إلى بداية التأريخ للإسلام وبداية نهاية الشرك وأهله {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وكان مكر الله تعالى بهم من حيث لم يظنوا، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقتل الصناديد ثم أسلم الأبناء وانتهى الشرك وتمت كلمة الله ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فجاءت العرب تُسْلم وفدا بعد وفد.
4- قرر فرعون نهاية المؤمنين واستئصالهم وسبق قبلها بخطاب تبريري لما سيقوم به: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ . فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:53-68].
5- ظن صاحب الجنة الشاك في البعث، كأنها لا تقبل الهلاك، فأحيط بها {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:36].
6- ظن أصحاب الجنة البخلاء بحق المساكين أن يقطفوا ثمارها دون أن ينقصه حق المساكين، وأحكموا أمرهم وخطتهم أن يخرجوا ليلاً يتخافتون، ليأخذوا الثمرة المستيقن وجودها، فهلكت حتى أنهم لم يعرفوها! {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ. أَن لّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ. وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ . فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:23-26]، فظنوا أنهم دخول بستانا آخر غير بستانهم!
7- سُئل بعض السلف بم عرفت ربك؟ قال: "بنقض الهمم وفسخ العزائم".
والمعنى أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكم من همم نُقضت وعزائم فُسخت ولم يتم مراد العبيد، ولهذا يقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام من الآية:112]، {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة من الآية:102]، فأفعال وتدبير الخلق محاط بقدر الله، ولله تعالى حكمته أن ينفُذ تدبير هذا المخلوق ولا ينفُذ تدبير آخر، فالكل في قبضة الله تعالى تحيط مشيئته وإرادته القدرية وحكمته بكل حدث، وقبل أن ينفُذ أي أمر أراده أي مخلوق فلا يتم إلا بعلمه تعالى وإذنه القدري.
8- وفي نفس المعنى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل:62]، قد تتساءل عن مفتاح هذه الأحداث على الأرض في عالم البشر، فيقال ماذا لو دمر الله تعالى مركز الأحداث ومدبري الأمور وعجّل بعض عقابه تعالى؟
أنت تعبد من بيده الأمور، وبقدره تجري الأقلام وتتم الأحداث، كل يوم هو في شأن، فلا تنظر إلى الحدث الأخير بل اصرف بصرك إلى أبعد من ذلك، واسأل مع أبيك إبراهيم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام من الآية:81-82]، الأمن والهداية مطلقة في الدارين.
قد تتساءل: ألم يستمر طغاة لزمن طويل نسبيًا؟
يقال لك هذا في حال لم توجد فئة مؤمنة ذات إيمان خالص وتضحية.
وقد تتساءل: أليس للمؤمنين أخطاء وذنوب؟
يقال لك إن الله تعالى ليمحص ويبتلي، ويغفر ويزكي، ويُصهر في الابتلاء، ويُجري أقداره لتطهير النفوس وقطع علائقها بغيره، الله المرتجَى، وهو المأمول، وفيه الثقة وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: