رقي الأمنيات

منذ 2015-05-12

الأمنيات هي تلك الأشياء الجميلة التي نحبها ونرغب فيها ونريد أن نصل إليها لأنها ليست في أيدينا الآن. وتختلف تلك الأمنيات باختلاف الأفراد، وعلى قدر علو همة الشخص وسموه، تسمو أمنياته وترقى.

 

الأمنيات هي تلك الأشياء الجميلة التي نحبها ونرغب فيها ونريد أن نصل إليها لأنها ليست في أيدينا الآن. وتختلف تلك الأمنيات باختلاف الأفراد، وعلى قدر علو همة الشخص وسموه، تسمو أمنياته وترقى. وعلى قدر سعيه نحو تحقيقها، يصل إلى ما يرنو إليه.

واليوم قد تنحصر الأمنيات بالنسبة لكثيرٍ منا في بيتٍ واسع، وسيارة جميلة، وأجهزة حديثة، وحياة رغدة سعيدة. ومنا من يسعى حثيثًا نحو تحقيق تلك الأمنيات لتصبح واقعًا ملموسًا، ومنا من يكتفي بالتمني ويظل حبيس الأحلام؛ قعدت به همته فلم يسعَ خلف ما تمنى وهذا (أخس الناس حياة لأنه أخسهم همة)[1].

ولننظر إلى بعضٍ من أمنيات من سبقوا، ونتأمل كيف كانت أمنياتهم، وكيف علت هممهم، وكيف ترفعت نفوسهم عن الأمنيات الدنية والمطالب الحقيرة، وكيف سعوا بكل جد نحو تحقيق أمنياتهم، وكما قيل:

فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم *** إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ

هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلس مع أصحابه يومًا ثم يقول لهم: "تَمَنَّوْا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: تَمَنَّوْا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ لُؤْلُؤًا وَزَبَرْجَدًا وَجَوْهَرًا، فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَنَّوْا، فَقَالُوا: مَا تَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ رِجَالًا مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمِ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَحُذَيْفَةِ بْنِ الْيَمَانِ"[2].

لله درّهم جميعًا! تمنوا أموالًا كثيرة ليس لأنفسهم، وإنما ليتصدقوا بها وينفقونها في وجوه البر والخير، وأما الفاروق فتمنى (رجالًا) يستعملهم في خدمة الإسلام ونشر الدين، (رجالًا) يحملون على عواتقهم هم الدعوة والفتوحات، (رجالًا) يتعلمون العلم ويعلمونه، (رجالًا) يحفظون السر ويُؤتمنون عليه. كانت أمنية الفاروق رضي الله عنه نشر الدين وحفظه. والتساؤل: كم من المسلمين اليوم يحمل هم نشر الدين ويتمنى ذلك؟

وهذا ابن الفاروق رضي الله عنه يتمنى المغفرة من الله تعالى؛ وإخوانه يتمنون أشياء أخرى تحققت لهم بالفعل، وعسى الله أن يحقق له مبتغاه. حيث (اجْتَمَعَ فِي الْحِجْرِ مُصْعَبٌ، وَعُرْوَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالُوا: تَمَنَّوْا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلافَةَ، وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّي الْعِلْمُ، وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إِمْرَةَ الْعِرَاقِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسَكِينَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ، قَالَ: فَنَالُوا كُلُّهُمْ مَا تَمَنَّوْا، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ غُفِرَ لَهُ)[3].

وأما حفيد الفاروق عمر بن عبد العزيز ذو الهمة العالية والأمنيات الراقية، كان يسعى دائمًا نحو الأفضل ولطالما تمنى أمنيات وأصبحت من نصيبه، ونرجو من الله تعالى أن تكون أمنيته الأخيرة قد تحققت. يقول عمر: "إن لي نفسًا تواقة تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل"[4].

وما أكثر من يتمنى الجنة، وما أقل من يعمل لها! إذ الأمنيات الفارغة هي تلك التي لا يصاحبها عمل؛ تجد فلان يتمنى النجاح، وفلان يتمنى الجنة، ثم إن فتشت عن أحوالهم ترى عجبًا؛ فلا هذا يذاكر لينجح، ولا ذاك يعمل ليُفلح.

ودخول الجنة ليس بالأمنيات وإنما بالعمل. فهذا ربيعة بن كعب رضي الله عنه؛ كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فطلب منه النبي أن يسأل شيئًا ويتمنى أمنيةً، فكانت تلك الأمنية الغالية (مرافقة النبي في الجنة)، ولكن أتكون هكذا بلا جد وعمل؟ لا، بل أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يُكثر من السجود (في الصلاة). يقول ربيعة: "كنت أبيتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأتيتُه بوَضوئِه وحاجتِه. فقال لي: «سلْ». فقلت: أسألُك مرافقتَك في الجنةِ قال: «أو غيرَ ذلك؟» قلت: هو ذاك. قال: «فأعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ» [5]. وكما قيل:

وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً *** تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

وهذه هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كانت تتمنى وتأمل في ولدها أن يسود ويقود؛ فما خاب ظنها وتولى معاوية رضي الله عنه الخلافة وقبلها كان أميرًا على الشام؛ (كَانَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ غُلاَمٌ يَمْشِي مَعَ أُمِّهِ هِنْدٍ، فَعَثَرَ، فَقَالَتْ: قُمْ، لاَ رَفَعَكَ اللهُ. وَأَعْرَابِيٌّ يَنْظُرُ، فَقَالَ: لِمَ تَقُوْلِيْنَ لَهُ؟ فَوَاللهِ إِنِّيْ لأَظُنُّهُ سَيَسُوْدُ قَوْمَهُ. قَالَتْ: لاَ رَفَعَهُ إِنْ لَمْ يَسُدْ إِلاَّ قَوْمَهُ)[6].

وهكذا تتفاوت أمنيات الناس وكذلك تتفاوت هممهم وسعيهم نحو تحقيقها، فكن ممن يطلب العلا ويناله، ولا تجعل أمنياتك في سفاسف الأمور.

---------------------------------------
[1] مدارج السالكين- ابن القيم.
[2] المستدرك على الصحيحين:ج3/ص252 ح5005، وإسناده حسن؛ قال الذهبي قي التلخيص: "على شرط البخاري ومسلم".
[3] حلية الأولياء- أبو نعيم.
[4] وفيات الأعيان: 2/301.
[5] صحيح مسلم:489.
[6] سير أعلام النبلاء- الذهبي.