رعشة مشتاق!
إنها رعشة مشتاق ولهان، خرجت من حبَّة القلب، لتسري في الجسد المتهالك كالفيضان، وكوقد النار في قعر الجوف كالبركان.
إنها رعشة مشتاق ولهان، خرجت من حبَّة القلب، لتسري في الجسد المتهالك كالفيضان، وكوقد النار في قعر الجوف كالبركان.
فيا لله! كم ستبكيك هذه العجيبة؟!
فقد ورد أن كلاب بن أمية بن الأسكر هاجر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقام بها مدة، ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما فسألهما: أي الأعمال أفضل في الإسلام؟ فقالا: الجهاد. فسأل عمر، فأغزاه في جيشٍ، وكان أبوه قد كبر وضعف، فلما طالت غيبة كلاب عنه، قال:
لمَن شيخان قد نشدَا كلابَا
أناديه فيُعرض في إباء
إذا سجعَتْ حمامةُ بطنِ وادٍ
أتاه مهاجران تكنّفاه
تركتَ أباك مُرعَشةً يداه
تُمَسّح مُهره شفقًا عليه
فإنك قد تركت أباك شيخًا
فإنك والتماسَ الأجرِ بَعدي
كتابَ الله إن قَبِل الكتابَا
فلا وأبي كلابٍ ما أصابَا
إلى بَيْضاتها دعَوَا كلابَا
ففارق شيخه خَطِئَا وخابَا
وأُمَّك ما تُسيغ لها شرابَا
وتجنبُه أباعرَها الصعابَا
يطارق أينُقًا شُزُبًا طِرابًا
كباغي الماء يتّبع السرابَا
فبلغت أبياتُه عمر رضي الله عنه فلم يردد كلابًا، وطال مُقامه، فأهترَّ أميَّة وخلط جزعًا عليه، ثم أتاه يومًا وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون والأنصار، فوقف عليه، ثم أنشأ يقول:
أعاذلَ قد عذَلْتِ بغير قدرٍ
فإمّا كنتِ عاذلتي فَرُدِّي
ولم أَقضِ اللُّبانة من كِلابٍ
فتى الفِتيان في عُسْرٍ ويُسرٍ
فلا والله ما باليتَ وَجدي
وإبقائي عليكَ إذا شتَونا
فلو فَلق الفؤادَ شَدِيدُ وجْدٍ
سأَستعدي على الفاروق ربًّا
وأدعو الله مجتهدًا عليه
إنِ الفاروقُ لم يردد كلابًا
ولا تدرِين عاذلَ ما أُلاقي
كِلابًا إذ توجَّه للعراق
غداةَ غدٍ وأُذّن بالفِراق
شديدُ الرُّكن في يوم التلاقِي
ولا شفقي عليكَ ولا اشتياقِي
وضمَّك تحت بحري واعتناقي
لهَمَّ سوادُ قلبي بانفلاق
له دُفِعَ الحجيجُ إلى بُساقِ
ببطن الأخشبَين إلى دُفاق
إلى شيخين هامُهما زَواق
قال: فبكى عمر رضي الله عنه بكاءً شديدًا، وكتب بردِّ كلاب إلى المدينة، فلما قدم دخل إليه، فقال: ما بلغ من برِّك بأبيك؟
قال: كنت أُوثِرَهُ وأَكفيهِ أَمرَه، وكنتُ أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنًا أغزر ناقة في إبله وأسمنها، فأُريحها، وأتركها حتى تستقرَّ، ثم أغسلُ أخلافَها حتى تَبرُد، ثم أَحتَلِب له، فأسقيه.
فبعث عمر رضي الله عنه إلى أمية من جاء به إليه، فأدخله يتهادى، وقد ضعف بصره وانحنى، فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب؟!
قال: كما تراني يا أمير المؤمنين!
قال: فهل لك من حاجة؟
قال: نعم، أشتهي أن أرى كلابًا، فأشُمَّهُ شَمَّةً، وأَضُمَّهُ ضَمَّةً قبلَ أن أموت!
فبكى عمر رضي الله عنه ثم قال: ستبلغ من هذا ما تحب إن شاء الله تعالى. ثم أمر كلابًا أن يحتَلِبَ لأبيه ناقةً كما كان يفعل، ويبعث إليه بلبنها، ففعل، فناوله عُمر الإناء، وقال: دونك هذا يا أبا كلاب!
فلما أخذه وأدناه إلى فمه، قال لعمر: والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء!!
فبكى عمر رضي الله عنه وقال: هذا كلاب عندك حاضرًا، قد جئناك به، فوثب إلى ابنه وضمَّه إليه، وقبَّله، وجعل عمر رضي الله عنه يبكي ومن حضره، وقال لكلاب: الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا، ثم شأنك بنفسك بعدهما، وأمر له بعطائه وصرفه مع أبيه، فلم يزل معه مقيمًا حتى مات أبوه.
عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
مدير فرع لجنة العفو واصلاح ذات البين - بجدة .
- التصنيف: