أبو طالب ومنافقوا العصر
إن المنافقين في هذا الزمن قد قلبوا لأمتهم ومجتمعاتهم ظهر المجن، يعيشون بأقنعة متلونة، وبأسماء يخترعونها لأنفسهم ليتزينوا بها أمام الناس.
الحمد لله أعز الدين، وأذل الكفر والكافرين، وجعل الذلة والصغار على المنافقين، والمخالفين لأمره، والصلاة والسلام على خير المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم"، فحلق رسول الله صلى الله عليه سلم ببصره إلى السماء فقال: «السيرة النبوية لإبراهيم العلي [ص:78]). وحاولت قريش مرارًا عديدة الضغط على رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة عائلته ولكنها فشلت.
» قالوا: نعم، قال: « » وفي رواية: « » "فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين" (صحيح
فلما ذاع أمر حماية أبي طالب لابن أخيه، وتصميمه على مناصرته وعدم خذلانه، اشتد ذلك على قريش غمًّا وحسدًا ومكرًا، ففكروا في أمر به يخلصون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن عمه، فابتكروا أن يقدموا لأبي طالب ولدًا يبادلون به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختاروا شابًا من شبانهم ليكون فداءً لأبي طالب ليتنازل لهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع اختيارهم على عمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: "يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش، وأجملهم، فلك عقله -أي ديته إذا قتل- ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك، ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا، فنقتله فإنما هو رجل برجل" قال أبو طالب: "والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدًا" (البداية والنهاية [3/48]).
وإن المرء ليسمع عجبًا، ويقف مذهولًا أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت، تأييدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلمهم ومشركهم على السواء. (فقه السيرة النبوية [ص:184]).
وأجار ابن أخيه محمدًا إجارة مفتوحة لا تقبل التردد أو الإحجام، ولقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني المطلب: فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله صلى الله عله وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله اللعين.
وكان يقول كما في (دلائل النبوة للبيهقي [2/188]):
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينًا *** فاصدع بأمرك ما عليك غظاظةً وابشر بذاك وقر بذاك عيونًا
ودعوتني وزعمت أنك صادق ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينًا *** وعرضت دينًا قد عَرَفْتُ بأنه من خير أديان البرية دينًا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني ساع بذاك يقينًا
هذا حال رجل كافر، فكيف بمن يدعي الإسلام، بل يدعي إن هذا الدين يهمه، حقيقة إننا نعيش زمنًا غريبًا عجيبًا، زمن تقلبت فيه الحقائق، وتغيرت فيه الأمور، حتى أصبح الحق باطلًا، والباطل حقًا، والمنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، فمن يتصور أن يُنْصَر هذا الدين بالرجل الكافر؟!
إن الله عز وجل قد يُسَخِّرُ الكافر، والفاجر لنصرة هذا الدين، فهذا أبو طالب قد ناصر هذا الدين مناصرة لو فقهها أهل النفاق، والزيغ في هذا الزمن لارتدوا جلباب السواد على وجوههم المظلمة، وذلك من قبح ما نال هذا الدين من سوئهم، وقبح تفكيرهم، وهم يتفاخرون بأنهم أبناؤه، وعاشوا في ظلاله، ولكن: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
وهنا مقارنة عجّلا بين أبي طالب ومنافقو العصر:
أبو طالب عاش كافرًا، ومات كافرًا، وأظهر كفره، وليست هذه منقبة لكن كان هذا حاله، وأما منافقو هذا العصر فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق.
أبو طالب رجل لم يتعلم في الجامعات العلمية، ولم ينل الشهادات الأكاديمية فهو رجل عامي، وأما منافقو هذا العصر فقد تلقوا التعليم الذي لم ينفعهم بل هو زيادة حجة عليهم.
أبو طالب عربي حر عاش في مكة، وما عُرف له تنكر لبلده الذي عاش فيه، وأما منافقو هذا العصر فهم عبيد لأهوائهم وشهواتهم، وخُدَّام لغيرهم، فهم تنكروا لبلدهم ولمجتمعهم، بل لأعظم من ذلك لدينهم وقيمهم ومبادئهم وثوابتهم.
أبو طالب يملك حمية عربية على محارمه وأقاربه، وأما منافقو هذا العصر فلا حمية يحملون، ولا نخوة يملكون، فكم نيل من أهلهم وأعراضهم وهم لا يكترثون، ومن آخرها النيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهم صامتون لم ينبتوا ببنت شفه، فهم خشب مسندة.
أبو طالب صادق في قوله وحديثه، وأما منافقو هذا العصر فهم كذبة خونة.
أبو طالب كغيره من العرب يحبون الشرف والسؤدد، وهو من أهلها، ولم يحمله ذلك على تضييع قيمه ومبادئه، وأما منافقو هذا العصر فقد حملهم حب الشهرة والظهور، والمخالفة والبروز إلى تضييع قيمهم ومبادئهم ليعيشوا للذاتهم وشهواتهم ولو على حساب دينهم.
أبو طالب لا يحب التلون، ولا يجيد لبس الأقنعة، ولا التملق، أما هؤلاء الرهق فكل يوم لهم وجه، وكل وقت لهم قناع، متلونون متبدلون مبدلون، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
إن المنافقين في هذا الزمن قد قلبوا لأمتهم ومجتمعاتهم ظهر المجن، يعيشون بأقنعة متلونة، وبأسماء يخترعونها لأنفسهم ليتزينوا بها أمام الناس، ويتفاخروا بحمل الشهادات والألقاب التي لا تغني من الحقيقة شيئًا، هم من بني جلدتنا ويلبسون لباسنا، ويتكلمون بلغتنا ولكن ظاهرهم لنا وقلوبهم لغيرنا، علانيتهم معنا، وسرائرهم قد امتلأت ببغضنا.
وبعد هذه المقارنة السريعة بين رجل في الكفر مغروس، وبين منافق في النفاق مغموس، أقول يا ترى هل سينتبه أهل النفاق لمثل هذه المقارنة العجلا، ولهذه الإطلالة السريعة فيسارعون في التوبة إلى الله تعالى، ويقلعوا عن رمي أمتهم، وملتهم بالنقائص والشتائم. يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145-146].
الفقير إلى عفو سيده ومولاه
د.ظَافِرُ بْنُ حَسَنْ آل جَبْعَان
الخميس 1431/10/21هـ
- التصنيف: