مات فلان! الله يرحمه
مات فلان فدفنه أهله، ولفظوه، وخافوا من جثته وهيبة رقدته وبقايا غُسله، ذهب الأهل ليتلقوا العزاء وهو هناك في الحساب، لا يدري أهله ما فُعل به.. مات فلان، متُ أنا، متَ أنت، لن يفلت أحد.
يخيل أحيانًا للسامع عندما يسمع كل ليلة سيارات تجوب الشوارع تنادي: "توفي إلى رحمة الله تعالى: فلان بن فلان، قريب كل من فلان، ووالد كل من فلان.." إلى آخر ما نسمع كل ليلة..
يخيل إليك أننا في سجن كبير، حُكم على الجميع فيه بالإعدام بطرق مختلفة! وينادى على من ينفذ فيه الحكم بعد التنفيذ لا قبله، بينما جميع بقايا المسجونين في انتظار دورهم، ليأخذوا دورهم في أن ينادَى عليهم بعد ذلك "مات فلان فسلّم ورقة الإجابة وانتهى وقت الأسئلة".
انتهت فرصة التراجع والإصلاح والتوبة وإصلاح الخلل، وتصحيح الانحراف وإرضاء الخصوم والتخلص من الأحمال، اكتملت فرصته، وانتهى دوره المباشر في هذا العالم! ذهب لعالم جديد وخلْق لم يرهم من قبل، رُفعت عنه حُجُب وعلم ما لم يكن يعلم، واستيقن أمورًا وباشرها، كَسَته هيبة الوفاة وجلاله، وملامح صماء، لكنها تكاد تنطق برهبة ما رأى ويلاقي.
مات فلان فذهب ليحاسب ويُسأل عن الكلمة والضحكة والكبيرة والصغيرة، والوقت الذي مرّ كيف عاشه؟
وكيف مرّ عليه؟ عن كل مال كسبه وأنفقه، عن الأيام والليالي، ذهب ليُسأل عما وقر في قلبه واكتسبته جوارحه، ذهب ليراجع علاقته بأبويه وزوجه وولده، وجاره وزميله، عما رأى ووجد من معاصي، وما رد فعله هل كره بقلبه أم لا؟
وهل قدر على الإنكار ففعل أم لا؟ ذهب ليُسأل عن الشأن العام والخاص، وقضايا المسلمين ووضعه الشخصي.
ذهب ليوزن عمله وصحفه وشخصه، نعم مات فلان ليعلم أن أنفَس شيء بين يده كان هو العمر.
ذهب للحق المطلق والميزان الدقيق بموازين الذرّ، ذهب ليُرفع إلى ما لم يكن يتوقع، أو ليهوي حيث لا يحتمل، ذهب إلى نور وسعة وفسحة، أو ليبدأ سجونًا وأغلالاً وقيدًا في يديه، وغُلّا في عنقه وكرب لا ينتهي.
ذهب إلى حيث السعة والفسحة، حتى أن الدنيا وراءه يراها سجنًا لا يطيقه، ويقول إخوانه يتلقّوه: "دعوه يستريح من عناء الدنيا"، أو ذهب ليُسجن ويبدأ العناء ويبكي على ما خلّف خلفه من نعيم سابق وفسحة لم ينتهزها، ثمة مجاور لربه، رفقاؤه الأنبياء والصديقون والشهداء، وآخر في ظلام لا ينتهي وضيق لا مخرج منه.
ذهب ليهتف يستعجل قيام الساعة، أو يشفق منها وهو منتظرها لا مفر.
يسمع في قبره بعض الناس تمر بالقبر يتكلمون في أمر الدنيا، فيتحسر على ما يضيعون يرجو لو كان مكانهم.
مات فلان فانتهى صخب الدنيا وجاء صمت القبور الطويل، جاءت رفقة الجماجم والهوام والحشرات.
مات فلان فدفنه أهله، ولفظوه، وخافوا من جثته وهيبة رقدته وبقايا غُسله.
ذهب الأهل ليتلقوا العزاء وهو هناك في الحساب، لا يدري أهله ما فُعل به..
مات فلان، متُ أنا، متَ أنت، لن يفلت أحد.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: