إنك ما زلت حيًا
أيها الحي! أيها النابض قلبه! ما حسدك الملايين من القرون قبلك على شيء مثل ما حسدوك وغبطوك على أنك الآن.. الآن حيّ! أيها الحي! ألا زلت حيًا؟ إذن فافعل فالفرصة لا تتكرر.
ثمة معاني سنعرفها جيدًا حين نموت، لكنها لا تنفع حينئذ ولا تجدي معرفتها إذ ذاك.
فما الضير وما المانع أن نعرف الآن ما سنعرفه غدًا، وأن ننظر إلى الأمر بتلك النظرة، فتدرك من الآن معنى أنك ما زلت حيًا!
كونك ما زلت حيًا يعني الكثير، فهو يعني أنك ما زلت مكلفًا، وما زال هناك إمكان قبولك من الله تعالى.
هناك أنفاس تتردد وقلب ينبض، وما زال الغيب قائمًا ولم تنكشف الحُجُب، وهذا يعني أنه ما زالت هناك فرصة للعمل بالغيب، وهو العمل المشروط للجنة {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم من الآية:61].
أنك ما زلت حيًا، يعني أنه يمكن أن تكون صدّيقًا! وهي أعلى درجة بعد النبوة؛ فما يمنعك؟
يمكن أن تكون شهيدًا، شهيدًا بحياتك وطريقة عيشك فيها بالتزامك منهج الله، تشهد على صحته بحياتك واختياراتك ومواقفك، وقد يصطفيك ربك فتكون شهيدًا بموتك، وقد تبلغ منازلهم بالدعاء الصادق! فما يمنعك؟!
أنت الآن حي! إذًا يمكنك أن تكون برّا تقيًا، أو سابقًا مقربًا ممن يرى وجه الله تعالى كل يوم في الجنة مرتين: غداةً وعشيًا! وفي غير هذين الوقتين لا يحول بينك وبين رؤية وجه ربك تعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه تعالى في جنة عدن! يا لله!
يمكن أن تكون شاكرًا أوّابًا، أو خائفًا منيبًا أو أوّاهًا رجّاعًا وجِلاً، أو عالِمًا بالله وبأمره، أو داعيًا تدُل على الله وتسوق خلقه إليه وتحببه إليهم وتخوفهم منه وتنجيهم.
يمكن أن تترك أثرًا بعد حياتك يدوم سنينًا أو عقودًا أو قرونًا لو شاء ربك، فإنك تحيا حياة قصيرة بأنفاس معدودة، لكن يمكن أن تطول جدًا بحسب أثرها، يمكن أن تتعب كثيرًا في هذه الأنفاس المعدودة لترتاح تمامًا في لحظة اللقاء بمجرد الوفاة.
أنت الآن حي! يا للفرصة إذ يمكن أن تتوب الآن، الآن الآن! يمكن أن تتخلص من جميع الذنوب وأنت في مكانك، بتوبة صادقة، وندم يقطّع القلب، وعزم صادق لا خلل فيه، ولو عشت بعدها لحظات!
يمكن أن تسترضي خصمك وترد الحقوق، وتمدح من اغتبته وتحسن إلى من ظلمته، وتصل من قطعته، وتنصف من ظلمته، أنت الآن حي وبعد قليل لن يكون، فانتهز الفرصة فإنها لن تعود قطعًا، أنت الآن حيّ! إذًا يمكن أن تذهب بسرعة البرق فتصلح انحرافًا عامًا صنعته أو تسببت فيه أو سكتَّ عنه، يمكن أن ترفع مظالم وضعتها على غيرك..
يمكن أن تقول أنا أخطأت في كلمة باطلة قلتها، وتقول مكانها الحق وتضع العلم الصحيح مكان الباطل، نعم يمكن، يمكن أن تلحق بشخص مات يعاديك لأنك كنت على باطل، فتصلح حالك فتلحق به في الجنة، نعم يمكن، بل ويضحك ربك إليكما! نعم إنك حي، وما زال في الإمكان أن تصنع!
يمكن أن تضمد جرحًا صنعته وتداوي قلبًا جرحته، وتستر عرضًا هتكت ستره، وتمنع باطلًا أن يكبر، وظلمًا أن يثمر ظلمًا آخر، يمكن أن توقف انحدارًا أن يتمادى وسقوطًا أن يبلغ، يمكن لأنك ما زلت حيًا؛ فما يمنعك أن تفعل؟!
يمكن أن تلم شعث قلبك المتمزق بين أغراض وأهواء ومخاوف وهواجس وإرادات باطلة، فتجمعه على حب واحد وخوف واحد وهَمّ واحد، واتجاه واحد وقصد واحد.. هو الله، نعم ما زالت الأنفاس تسمح بهذا فلم لا تفعل؟
يمكن أن تبدل كلام السوء فتقول الكلمة التي تُصلح، فتبقى في قلبٍ وتعيها نفسٌ وتثمر كل حين! نعم يمكن أن تفعل.
يمكن أن تملأ العمر تسبيحًا، وتقرب سجدات ودمعات وعرقًا لله وعطاء من أجله..
تعال أهديك هدية، يمكن أن تسبح تسبيحة ترجح عند الله بتسبيح الخلق كلهم! نعم، ويمكن أن تسجد سجدة ترجح سجود الخلق كلهم، نعم والله! لا أدري ما يمنعك من هذه التسبيحة أو السجدة؟ يا راحلًا عما قريب! نعم أنت، نعم أنا.. يمكن أن تعتذر للحياة عما أفسدت فيها ،أو نسيت أو غفلت وتصلحها، أو تكون فيها سلامًا قبل أن تودعها.
أيها الحي! أيها النابض قلبه! ما حسدك الملايين من القرون قبلك على شيء مثل ما حسدوك وغبطوك على أنك الآن.. الآن حيّ! يمكن أن تفعل كل هذا الآن وهم لا يستطيعون.
أيها الحي! ألا زلت حيًا؟ إذن فافعل فالفرصة لا تتكرر.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: