إلى قضاة الطاغوت!
فلا عُذر لقاضٍ تحت مظلة تلك الأنظمة الطاغوتية، التي تحكم بغير ما أنزل الله، وتستبدل بشرعه؛ قوانين اليهود والنصارى.
أولًا: الأصل هو توقّي القضاء، وعدم طلبه، والتورّع عنه إن أُكرِه عليه، قال ابن قدامة رحمه الله:
"طريقة السلف: الامتناع منه والتوقّي، وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه، وعلى كل حال، فإنه يُكره للإنسان طلبُه، والسعي في تحصيله".
(انظر: المغني).
وذكر الجصّاص ما حصل لأبي حنيفة رحمه الله، فقال:
"وقد أكرهه ابنُ هبيرة، في أيام بني أمية على القضاء، وضربه، فامتنع من ذلك وحُبس"
(انظر: أحكام القرآن).
ثانيًا: فمَن تولَّاه؛ فيلزمه شروط وأوصاف، وعليه واجبات وآداب:
قال ابن قدامة رحمه الله:
"والناس في القضاء على ثلاثة أضرب؛ منهم من لا يجوز له الدخول فيه، وهو مَن لا يحسنه، ولم تجتمع فيه شروطه، وهي ثلاثة شروط:
* أحدها: الكمال، وهو نوعان؛ كمال الأحكام -بالغًا عاقلًا حرًّا ذكرًا-.
* الشرط الثاني: العدالة، فلا يجوز تولية فاسق ... !
* الشرط الثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، ولم يقل بالتقليد ومن
شرط الاجتهاد معرفة ستة أشياء:
الكتاب، والسنة، والإجماع، والاختلاف، والقياس، ولسان العرب!
وقال علي رضي الله عنه:
"لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيًا، حتى تكون فيه خمس خصال:
عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم".
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قال:
ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال، إن فاتته واحدة كانت فيه وصمة: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحكم.
(المُغني).
وقال الجصاص في أحكام القرآن:
"ولا فرق عند أبي حنيفة، بين القاضي وبين الخليفة؛ في أن شرط كل واحدٍ منهما العدالة، وأن الفاسق لا يكون خليفةً ولا يكون حاكمًا ولا قاضيًا".
ثالثًا: يجب على القاضي، وكل والٍ وحاكم؛ الحكم بما أنزل الله وشرع، لا غير:
قال ابن تيمية رحمه الله:
"فالشرعُ الذي يجب على كل مسلمٍ أن يَتبعه، ويجبُ على وُلاة الأمر،نصرُه والجهادُ عليه؛ هو الكتاب والسنة، وأما حُكم الحاكم؛ فذاك يُقال له قضاء القاضي؛ ليس هو الشرع الذي فرض اللهُ على جميع الخلق طاعتَه، وليس لأحدٍ أن يحكم بين أحدٍ من خلق الله؛ لا بين المسلمين ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا الجيش ولا الفقراء ولا غير ذلك؛ إلا بحكم الله ورسوله".
(انظر: مجموع الفتاوى).
رابعًا: ومتى خرج القضاة عن ذلك؛ فلا طاعة لهم، ولا تنفذ أحكامهم:
قال القرطبي في المُفهِم:
"قوله عليه السلام: « »؛ ظاهر في وجوب السمع والطّاعة للأئمة، والأمراء، والقضاة، ولا خلاف فيه إذا لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية؛ فلا تجوز طاعته في تلك المعصية قولاً واحدًا".
وقال الشوكاني رحمه الله:
"وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}
وأولي الأمر: هم الأئمة، والسلاطين، والقضاة، وكلُّ مَن كانت له ولايةٌ شرعية، لا ولاية طاغوتية".
(انظر: فتح القدير).
والولاية الطاغوتية: هي تيك التي يكون حُكمها خارجًا عن شريعة الإسلام، وتستبدل بها قوانين البشر الوضعية، وتفتقر إلى شروط الولاية الأخرى.
خامسًا: ومتى ترك القضاة؛ حُكم الله ورسوله، وحكموا بغير ما أنزل، وجعلوا ذلك تشريعًا عامًّا للناس؛ فقد كفروا وارتدُّوا عن الإسلام:
قال ابن تيمية رحمه الله:
"وليس لأحدٍ أن يحكم بين أحدٍ من خلق الله؛ لا بين المسلمين ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا الجيش ولا الفقراء ولا غير ذلك؛ إلا بحكم الله ورسوله.
ومن ابتغى غير ذلك؛ تناوَله قولُه تعالى:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
فيجب على المسلمين أن يُحكِّموا اللهَ ورسولَه في كل ما شجر بينهم، ومَن حكَم بحُكمٍ، مما يُخالف شرعَ الله ورسوله، وحكمَ الله ورسوله،
وهو يعلم ذلك؛ فهو مِن جنس التتار الذين يُقدمون حكم (الياسق) على حكم الله ورسوله
(انظر: مجموع الفتاوى).
وقد كفَّر شيخُ الإسلام؛ التتارَ، في غير موضع، وكذا جماهير العلماء.
قلتُ:
"ومناط تكفير القضاة، الحاكمين بغير حكم الله ورسوله؛ مناطان:
الأول: تركهم الحكم بما أنزل الله:
قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
قال السدي:
"ومن لم يحكم بما أنزلتُ فتركه عمدًا، وجارَ وهو يعلم فهو من الكافرين".
وقال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن:
"ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل مافعلوا، واخترع حكمًا يخالف به حكم الله؛ وجعله دينًا يُعمل به؛ فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور؛ حاكمًا كان أو غيره".
والمناط الثاني: الحكم بغير ما أنزل الله، كحكمهم بالقوانين الوضعية الغربية؛ قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
ومجرد التزامهم الحكمَ بالقوانين الوضعية، هو تعمّد منهم لترك حكم الله، والحكم بغيره!
مثال لتوضيح المناطين: إذا زنى متزوج، فلم يحكم القاضي برجمه؛ فهنا ترك الحكم بما أنزل الله، فإن حكم بسجنه أو براءته لرضا المزني بها؛ فقد حكم هنا بغير ما أنزل الله.
ومن أراد الاستزادة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؛ فليراجع سلسلة الحاكمية، التي سبق نشرُها.
وسئل ابن عثيمين رحمه الله:
"وهل هناك فرقٌ في المسألة المُعينة التي يَحكم فيها القاضي؛ بغير ما أنزل الله، وبين المسائل التي تُعتبر تشريعًا عامًا؟!
فأجاب: نعم هناك فرق، فإن المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًا؛ لا يتأتى فيها التقسيم السابق الحالات الثلاث؛ كفر، ظلم، فسق وإنما هي مِن
القسم الأول فقط -الكفر الأكبر- لأن هذا المُشرع تشريعًا يخالف الإسلام؛ إنما شرعه؛ لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد".
(انظر: مجموع الفتاوى والرسائل).
وأخيرًا: هذا حُكم أحمد رحمه الله؛ فيمَن يسمع ويطيع لمثل هؤلاء.
قال رحمه الله: "مَن يَتْبَعُ الولاةَ والقُضاة ؛ فهو وسِخ".
(انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح).
فلا عُذر لقاضٍ تحت مظلة تلك الأنظمة الطاغوتية، التي تحكم بغير ما أنزل الله، وتستبدل بشرعه؛ قوانين اليهود والنصارى.
ويجب على من لا زال بينهم؛ أن يخرج من بينهم، ويبرأ إلى ربِّه مما كان، ومتى تاب؛ تاب الله عليه، ومن بقي فلا عُذر ولا إعذار، والله يقضي بين عباده.
ويلزم المسلم ألَّا يأتي مثل هكذا قضاة، وأرجو الله المُعافاة لمن أُكرِه واضطُرّ.
وكذا مُفتو الطاغوت وشيوخه وأوقافه؛ فلا أمانة لهم، والله المستعان.
فاللهمَّ اقضِ لنا بالخير والفلاح، ونجّنا وقومنا من الطاغوت وجنوده وقُضاته.
أبو فهر المسلم
باحث شرعي و أحد طلاب الشيخ سليمان العلوان حفظه الله
- التصنيف: