خطوات في التربية - (27) اليقين في القرآن العظيم (1)
إنما صار القرآن معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني، من توحيدٍ له عزّت قدرته، وتنزيهٍ له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته، من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لايرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق به..
ثمة الكثير من أوجه الاستدلال على صحة هذا الكتاب العظيم وإعجازه، فمنها:
أولاً: من حيث النظر إلى من تنزل عليه، وهو النبي الأمي، ما يعد وحده وجهًا معجزًا، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتلقه من غيره، بل من رب العالمين "ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أنه كان أميًا لا يخط كتابًا بيده ولا يقرؤه، ولد في قوم أميين ونشأ بين ظهرانيهم في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار المتقدمين، وليس فيهم منجم يتعاطى علم الكوائن ولا مهندس يعرف التقدير، ولا فيلسوف يبصر الطبائع ولا متكلم يهتدي لرسوم الجدل، ووجوه المحاجة والمناظرة والاستدلال بالحاضر على الغائب..
ولم يخرج في سفر ضاربًا إلى عالم فيعكف عليه ويأخذ منه هذه العلوم، وكل هذا معلوم عند أهل بلده مشهور عند ذوي المعرفة والخبرة بشأنه، يعرفه العالم والجاهل والخاص والعالم منهم فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية، وقد كان ذهب معالم تلك الكتب ودرست وحرفت عن مواضعها ولم يبق من المتمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها من سقيمها إلا القليل، ثم حاج كل فريق من أهل الملل المخالفة له بما لو احتشد له حذاق المتكلمين وجهابذة المحصلين لم يتهيأ لهم نقض شيء منه، فكان ذلك من أدل شيء على أنه أمر جاءه من عند الله عز وجل.
وهذا هو معنى قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] ففيه إشارة إلى ما اقتصصنا من حاله ووصفنا من أمره في أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يعرف بدرس الكتب وطلب الأخبار، وإنما هو شيء أنزله الله عليه فهو يتلوه عليهم وكفى به دلالة على صحة أمره وصدق دعواه" (الاعتقاد للبيهقي ص:258)
ثانيًا: إعجاز نظمه.
"فإن أجناس كلام العرب التي تكلمت بها خمسة:
1- المنثور الذي تستعمله العرب في محاورة بعضهم بعضًا.
2- والشعر الموزون.
3- والخطب.
4- والرسائل.
5- والسجع.
وكل نوع منها نمطه غير نمط صاحبه، ونظم كلام القرآن مباين لهذه الوجوه الخمسة مباينة لا تخفى على من يسمعه من عربي فصيح أو ذي معرفة بلسان العرب من غيرهم، حتى إذا سمعه لم يلبث أن يشهد بمخالفته لسائر هذه الأنواع من الكلام والحجة، إنما قامت على قريش وسائر العرب بوقوفهم على ذلك من أمره، وأن هذا الفرق بينه وبين سائر الكلام هو موضع الحجة، وبذلك صار معجزًا للخلق وقائمًا مقام الحجج التي بعث الله بها رسله، واحتج بها على الناس، مثل فلق البحر وإحياء الموتى، ومنع النار من الإحراق..
ولذلك قال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة من الآية:23]، إلى أن قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]" (الاعتقاد للبيهقي: ص260)، ويشير الإمام الخطابي إلى أن الخطاب العربي ثلاث مراتب: ففيه البليغ الرصيد الجزل، وهو أعلاه وأرفعه، وفيه الفصيح القريب السهل، وهو أوسطه وأقصده، وفيه الجائز الطلق المرسل، وهو أدناه واقربه.
ويقول رحمه الله: "فانتظم بهذا الامتزاج نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الكلام تعالج نوعًا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نَظْم القرآن مع نبوِّ كل واحد منهما على الآخر فضيلة خُصّ بها القرآن، يسرها الله بلطيف قدرته ليكون آية بينة لنبيه على صحة ما دعا إليه من أمر الدين.
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة، ومعانيها، ونظام تركيبها وإنما يقوم الكلام بثلاثة أشياء: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملنا القرآن وجدنا هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة فلا ترى من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشد تلاؤمًا وتشاكلاً من نظمه، وأما المعاني فهي المشهود لها بالتقدم والترقي، وقد توجد الفضائل الثلاثة هذه على التفرق في أنواع الكلام، لكنها لم تأت مجتمعة إلا في كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيءعلما".
ويقول: "وإنما صار القرآن معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني، من توحيدٍ له عزّت قدرته، وتنزيهٍ له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته، من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لايرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق به..
مودِعًا أخبار القرون الماضية، وما نزل من َمثُلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الباقية من الزمان، جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباءً عن وجوب ما أمر به، ونهى عنه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم ويتسق أمر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قُدَرُهم؛ فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله".
ويقول رحمه الله: "فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشّاها الخوف والفرَق تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، ويحول بين من النفس وبين مضمراتها، وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول رجال العرب وفُتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانًا".
وذكر حال رسول قريش عتبة بن ربيعة قبل ذهابه إلى النبي وبعده، بعد أن قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من سورة السجدة، وذكر حال هذا النفر الذين حضروا من الأمصار موسم الحج، فسمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وعادوا إلى المدينة وأظهروا الدين بها، فلم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه قرآن، وروى عن بعضهم أنه قال: "فتحت الأمصار بالسيوف وفتحت المدينة بالقرآن".
ولم تلبث الجن حينما سمعت القرآن إلا أن قالت: {...إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1-2]، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ} [العنكبوت من الآية:51] (بيان إعجاز القرآن للخطابي).
يتبع إن شاء الله تعالى.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: