من تَرك تُرك، ومن عاد صُنع له
أن تؤذّن فيسمعك الناس ويصل صوتك إلى من استطعت بجهدك أن تصل إليه، فهذا لا يتم إلا بمعونة الله والتوكل عليه، لكن أن تؤذّن بلا آلة، وفي صحراء؛ فيسمعك الناس والأجيال والنطف في أصلاب الآباء وتقول لبيك اللهم لبيك، فهذا لا يكون إلا عندما أذّن إبراهيم على بيت الله الحرام، غير ناظرٍ إلى قدرته ودوي صوته، بل لما امتثل الأمر وتوكل على الله تعالى أن يوصل بقوته الطليقة، فتولى الله الأمر وأوصل صوته حيث لم يظن إبراهيم..
أن تقوم بسبب معين، هذا السبب فيه قوة، وترجو أن ينتج السبب مسببه هذا يفعله الكثير، فهذا ما يقوم به العاقل الذي يدبر أمره ويقوم بمصالح نفسه، لكن هذا القدر يقوم به المؤمن والكافر.. لكن ما لا تعلمه أن السبب ليس وحيدا بل لا بد معه من أسباب أخرى تتوفر معه في الوقت نفسه، وهناك موانع لو وجدت لم يؤت السبب ولا الأسباب المعاونة أثرها.. وهذا كوضع البذرة في الأرض فوضعها سبب، لكن لا بد من أسباب معاونة كالشمس والرياح والماء وغيره..
وهناك موانع قد تحدث فتمنع البذرة وأسبابها من إتيان الثمرة، فقد تتلف البذرة بفعل حيوان أو يأتي سيل يغرق الأرض أو صقيع يحرق النبات أو نار تأكل ما نبت أو غير ذلك.. ولهذا فالحقيقة هي أن السبب الذي تقوم به هو (جزء سبب)، تقوم أنت به.. ويبقى اكتمال الأسباب المعاونة لله تعالى، ويبقى صرف الموانع الصارفة لله تعالى..
هكذا المذاكرة للنجاح، والعمل لطلب الرزق، ومعاشرة الأهل لإنجاب الولد، وتربية الولد رجاء صلاحه، والدعوة لإصلاح الخلق، ومواجهة الباطل لكسره وتمكين الحق والعدل، والنصيحة لهداية شخص..
هنا يأتي التوكل على الله تعالى لثلاثة أمور:
1- للمعونة للقيام بجزء السبب الذي في مقدورك، فلولا معونة الله تعالى لك في هذا الجزء نفسه لما قمت به.
2- لإكمال الأسباب المعاونة.
3- ولصرف الموانع الطارئة.
فبالتوكل تتم الأمور؛ ولذا يقرن الله تعالى العبادة التي هي اتخاذ الأسباب مع التوكل الذي هو الاعتماد على الله تعالى للمعونة على توفية السبب الذي في مقدورك، وإكمال الأسباب المعاونة، وصرف العوائق المانعة.
العبادة نظر إلى الألوهية والقيام بحقها، والتوكل نظر إلى الربوبية والقيام بحقها، الأولى توجب القصد والتوجه والعمل، والثانية توجب الاستعانة لطلب المعونة والاقتدار بالله تعالى والعمل بحوله.
لكن التوكل لا يقف هنا، لا يقف عند أن ينتج السبب الذي قدمته ما أملت فيه من قوة، بل إن التوكل له بُعد أعظم من هذا، هو أن تقدم السبب ثم لا تنظر إلى ما فيه من قوة بل تنظر إلى الله تعالى بقوته وقدرته، فلا تأمل في السبب ولا تنظر إليه بل تنظر إلى قوة الله وقدرته وتأمل فيه تعالى ليس أمنية، بل أن تعتمد عليه وتفوض إليه وتثق فيه وتستيقن وتحسن الظن أن ينتج تعالى -بما قدمته- ما لا يحد من مقدور الله تعالى وأن يصنع الله تعالى بقوته وقدرته ما هو فوق السبب، ولنوضح ذلك بأمثلة..
1- أن ترمي بكفٍ ممتلئ بالحصى فيصيب من رميته به بما جرت به العادة لمثل قوة يدك وقدرة إيصالها، فهذا يحدث بفضل الله وبالتوكل عليه، وقد يعطيه الله تعالى بمعونته للمؤمن، وقد يعطيه للكافر اختبارًا، لكن أن يصل حذف الكف بالحصى إلى جيش بكامله، فلا يترك شخصًا واحدًا إلا أصاب عينه ومنخريه، فهذا هو خصوص التوكل على الله تعالى، ولم يفعل الكف هذا، فليس فيه هذه القوة لكن لما توكل راميها صلى الله عليه وسلم يوم بدر والْتفت إلى القدرة الطليقة فتولى الله تعالى التأثير، لا في حدود القوة التي أجراها في كف المخلوق بل بقدرته تعالى الطليقة التي لا يحصرها شيء.
2- أن تؤذّن فيسمعك الناس ويصل صوتك إلى من استطعت بجهدك أن تصل إليه، فهذا لا يتم إلا بمعونة الله والتوكل عليه، لكن أن تؤذّن بلا آلة، وفي صحراء؛ فيسمعك الناس والأجيال والنطف في أصلاب الآباء وتقول لبيك اللهم لبيك، فهذا لا يكون إلا عندما أذّن إبراهيم على بيت الله الحرام، غير ناظرٍ إلى قدرته ودوي صوته، بل لما امتثل الأمر وتوكل على الله تعالى أن يوصل بقوته الطليقة، فتولى الله الأمر وأوصل صوته حيث لم يظن إبراهيم.. فهذا لخصوص التوكل.
3- أن تمتثل أمر الله في واقعة معينة، راجيًا أن يتقبل ويأجُرك، هذا لا يكون إلا بفضل الله ومعونته والتوكل عليه..
لكن أن تصير تحركات الشخص وذهابه وإيابه نُسكًا، يأمر الله الملايين أجيالاً إثر أجيال بالقيام به، فتأتي ملايين الأقدام بعد ملايين تطأ نفس الموطن وتخطو نفس الخطوات وتدب في نفس المكان، خلف هذا العبد تأسيًا به امتثالاً لأمر الله تعالى، فهذا لا يكون إلا لمن هي من تربية إبراهيم الخليل، وقد توكلت على ربها تعالى تقوم بما أُمرت به غير ناظرة لفعلها بل ناظرة إلى ربها أن يصنع لها بقدرته الطليقة وفضله الذي لا يحد، فصنع لها تعالى ما ليس في مقدور سببها الذي قامت به بل بمقدوره وفضله الذي لا يُحد، وما لم يخطر لها على بال.
4- آلاف آلاف الكلمات يطلقها الناس كل لحظة في لغط لا ينتهي، لكن أن تعظ أحدًا بكلمات شرعية فتبلغ الموعظة قلب أحد فينتفع بها، فهذا لا يكون إلا بمعونة الله وفضله بالتوكل عليه، لكن أن تصل الكلمة إلى آلاف آلاف الخلق، وتنتبه لها قلوبهم وتنزل في قلوبهم في محل شغف واحترام وثقة، وأن تنتج الكلمة أعمالاً وأقوالاً ومواقف ومصالح، وأن تتوارثها الأجيال، فهذا لا يكون إلا بخصوص التوكل الذي لا ينظر صاحبه إلى ما في قدرته وبلاغته وتأثيره البشري، بل يقوم بما أُمر ويلتفت عنها ناظرًا إلى ربه تعالى أن يوصلها للقلوب، وأن يبلغها بقدرته الطليقة وفضله الواسع سبحانه وتعالى.
5- أن تقاوم الكفار والمجرمين والعملاء والخونة والفاسدين، رجلاً ضد رجل فترجو أن تنتصر عليه فتنتصر، فهذا لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته، بمعونتك على السبب وتكميله لك وصرف الموانع، لكن أن تقف فئة قليلة تقدم السبب وتثبت وتستوفي ما عليها، ثم لا تنظر إلى السبب والقوة التي قامت بها في مقدورها بل تفوض الأمر إلى ربها، وتتوكل على من له القدرة كلها والقوة كلها، فتغلب أضعاف أضعافها وتهدم الباطل وتغير التاريخ، فهذا بخصوص التوكل الذي يفعل الله تعالى لمن قام به ما يشاء من أقداره العظمى، بما لا يكون السبب البشري إلا ستارًا فقط للقدرة الربانية التي تصنع ما تصنع بلا حدود ولا قيود.
لقد حدث هذا مرارًا، حتى أن من نظر إلى ثبات فئةٍ ما يومًا قال أنهم قد خدعتهم ثقتهم في دينهم فأوردتهم الهلكة! فرد الله عليهم أنهم متوكلون، وأن توكلهم هو على من له العزة في قدرته والحكمة في أفعاله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49]، فجاء حجر في يد داوود قتل قائد جيش فتمزق الجيش خلفه، وغلب أصحاب محمد صناديدا ورموزا بكاهم أحد القرشيين يومها قائلا: "ألا قد ساد بعدهم ورجال ولولا يوم بدر لم يسودوا" وتغير التاريخ من يومها.
6- نقف اليوم أمام قوى جبارة ومتمكنة في الداخل مع ملايين لها ميول ناطحة ورافسة ومتمطية الأعناق للباطل، مع تحالف إقليمي على هذا الدين وهذا البلد وما يمثله من أمل للإسلام، مع تحالف عالمي من روسيا لأوروبا للولايات المتحدة القذرة، تقف أمامها فئة بأدوات بسيطة مع كثير من الأشواك والمخاطر، فلا ينجي اليوم إلا أن تقدّم الأسباب التي في مقدورك متقَنةً محكمة، ثم لا تنظر إليها بل أن تتوكل على من له القدرة الطليقة وبيده الأسباب كلها؛ يفرق جموعهم ويوهن كيدهم ويحبط مكرهم، يفضحهم ويعريهم، ويهينهم ويذلهم، ويسقط رايتهم ويصرف عنهم الجموع والتوفيق ويأتهم من حيث لايحتسبون..
هكذا قام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بكل هذا التوكل، فتحوا القلوب وبقيت فيها كلمتهم مئات السنين إلى يوم القيامة، دانت لهم الأمم وأسقطوا كسرى وقيصر ودفع لهم ملوك الصين الهدايا وبذلوا الصلح ليعودوا، هدموا بيوت الأصنام وركبوا البحار وامتلأت بهم الفجاج وارتجت الأصوات بتكبيرهم وأشرقت الهداية في قلوب محرومة وخرج المفسرون والمحدثون من أقصى الشرق يروون حديث رسول الله، ويذبون عنه الكذب ويحملون العلم للأمم، إلى الأندلس يتوطن فيها العلم وتقام للإسلام محاريب، واليوم يهتف الهاتف ويصرخ الصارخ: "من تَرك تُرك، ومن عاد صُنع له".
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: