التصابي السياسي
فالأمر لا يتعلق فقط بوضع استثنائي تتعطل فيه المؤسسات الدستورية والتنفيذية والتمثيلية، ويُعتمد فيه على إجراءات انتقالية قبل الشروع في إعادة بناء تلك المؤسسات، وإنما يتعلق بأمر جوهري هو التوافق الوطني على قواعد البناء السياسي وإدارة السلطة، ناهيك عن التسوية الشعبوية لمسائل مصيرية كان من المفترض أن يوضع تحت تصرف الشعب تصورات واضحة لها قبل توسل الشرعية لها عبر صناديق الاقتراع
في مناخ سياسي متقلب بين الشك والارتياب والعداء، ومتأرجح بين التنكيت والتبكيت، ينكفيء العقل أمام تلك الرغبة المجنونة في الاستحواذ على المشهد برمته ضدًا لأعلى قواعد الممارسة السياسية فحسب، بل كذلك على ما يفرضه منطق التعدد واختلاف الآراء من توزع أفراد المجتمع بين هذا التيار وذاك لاعتبارات عديدة، وحين تتجرد اللعبة من كل قواعدها فتَرقب استباحة الهواة وباعثي الفوضى لأكثر المشاهد تغلغلًا وتحكمًا في مفاصل حياتنا اليومية!
تولد عن الاحتكاك المتزايد بين الظاهرة السياسية وأدوات الاتصال الحديثة سلوكيات ومواقف يعجزالمرء أحيانًا عن تصنيفها، وذلك لخلوها مما عودتنا عليه الممارسة السياسية سلفًا من انضباط، ولومحدود، لمباديء العمل السياسي وأخلاقياته، وإنضاج الخصومة وفق لغة لا تخدش الحياء العام، إن ما نعاينه اليوم من همز ولمز، واحتكام إلى القبح والاستعارات المرذولة يستحثنا لإقحام مفردات جديدة في المعجم السياسي دون الرجوع لأهل الاختصاص، وما نرجوه حقًا هو أن تظل هذه المفردات على الهامش، كتعبير عن سحابة صيف نأمل أن تنقشع ليسترد المشهد عافيته!
يكشف خطاب بعض الفاعلين السياسيين عن حالة من (التصابي) قد لا تقف عند المدلول اللغوي الصرف بل تفتح الباب أمام تأويلات نفسية أخرى! يُعرف ابن منظورالتصابي في (لسان العرب) بأنه الميل إلى الجهل والفتوة، فيقال: "استصبى الرجل أو تصابى أي مال إلى اللعب واللهو، كالصبية، فهو مُتصاب، ومن المأثور الأدبي قول الأقيشر السعدي:
تعففت عنها في العصور التي خلت فكيف التصابي بعدما كلأ العمر
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن له دون ما يأتي حياء و لا ستر
فدعه ولا تنفس عليه التي أتى وإن جر أسباب الحياة له الدهر.
أما التصابي السياسي فيحيل على استحضار ردود أفعال الصبية في مجال يرتبط فيه القرار والموقف بمستقبل الوطن واستقراره وازدهاره، وهي حالة انتابت جزءًا غير يسير من النخبة السياسية في البلاد العربية خاصة بعد أحداث الربيع العربي، لعجزها عن مسايرة التحولات التي فرضتها حركات احتجاجية تطالب بالديموقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، لقد اضطر الفاعل السياسي في الآونة الأخيرة إلى مواجهة شباب تسيس من خارج إطار الحزب المعارض التقليدي، ورفع سقف المطالب بحيث لا يمكن للغة الخشب المألوفة أن تستوعبها كشعار أجوف دون الإقدام على تأثيث البيت الداخلي بما يتناسب مع المرحلة الجديدة، فكانت المحصلة هي التخبط في الآراء والمواقف، والانحدار بالسجال السياسي إلى مستوى غير مسبوق من الشتم والتنابز بالألقاب والتلصص وانتهاك الحرمات.
إن من التصابي أن يعلن نائب للشعب أن تجربة حكومية استمرت لبضع سنوات لم تقدم أي شيء للبلد، فالأمر شبيه هنا بإسقاط طفل حائط بطولات أبيه لمجرد أن الأخير اعترض على شراء لعبة أوتأمين مصاريف رحلة! هذا الإنكار البارد يمكن قبوله من رجل شارع في فورة غضب أواحتجاج، لكن أن يصدر عن مسؤول قريب من مركز القرار ومتابعة التدبير الحكومي اليومي للشأن العام فهو ما يستعصي إدراجه في أية خانة أخرى.
ومن التصابي أن يُواجه الفاعل الحزبي اختلالات تنظيمية أو تصدعًا داخليًا لمؤسسته بتلفيقات غير مستساغة تمس الحياة الشخصية لخصومه أو محيطهم العائلي، أو تجريم سلوك أو موقف لا تتبين فيه للرأي العام مدعاة لذلك، تمامًا كالصبي الذي أتلف سيارة الجيران، فيسعى لتوريط أخيه الأصغر في العقوبة بزعم أنه دلق حبرًا على جوربه!
إن الفاعل الحزبي هنا لا يضيف نقاطًا إلى رصيده أو يكشف عن دهاء وحنكة بقدر ما يحول نقاط ضعفه إلى فرص ونتائج يحصدها الخصم.
ومن التصابي أن يتصدى المعارض لقرار حكومي أومبادرة عبر إثارة الذعر ومحاولة تأليب الرأي العام، ونقل الاحتقان من داخل المعترك السياسي إلى الشارع، لتكشف الأحداث اللاحقة صواب المبادرة وحكمة القرار، يبدو الموقف هنا شبيهًا بطفل يصرخ مستنجدًا لمرأى ثعبان في الردهة الخارجية، ليتبين بعد إضاءة المصابيح أنه ليس سوى حبل غسيل، ما ظنك إذن بالصبي وهو يتلقى وابلًا من السخرية والقهقهات المستفزة؟ إن رجل الشارع البسيط قد يجد مسوغًا لخطأ الفاعل السياسي أوحتى كذبه، لكن ما يثير استهجانه حقًا هو أن يُستهان بذكائه وفطنته.
أما عن أسباب ومحددات التصابي السياسي فيمكن ضمن قراءة أولية تصنيفها إلى قسمين: الأول مرتبط بقواعد اللعبة السياسية ومدى الالتزام بها أوخرقها، والثاني متصل بالاستعداد النفسي للفاعل السياسي ومواصفاته الشخصية، وسنوجز الحديث هنا عن محددات القسم الأول لضيق الحيز من جهة، ولصعوبة استقصاء كل الحالات التي تضج بها البلاد العربية.
يستوقفنا حديث كل من إيان بريمر وبريستون كيت في كتابهما (الذيل السميك: أهمية المعرفة السياسية في الاستثمارالاستراتيجي) عن الأشكال الرئيسية للتحيز، وكيف يمكن لها أن تعيق صنع القرارالسياسي أو المعالجة المبكرة للخطر، ويندرج التحيز الإيديولوجي ضمن هذه الأشكال التي توقع الفاعل السياسي في فخ التصابي حين تعيقه الغمامة الإيديولوجية عن طرح تحليل صائب للوقائع، أوالإقرارالموضوعي بما حققه الخصم السياسي من إنجاز على مستوى تدبير الشأن العام.
في الانتخابات الرئاسية البرازيلية لسنة 2006 بادر معظم الخبراء الاقتصاديين ببورصة (وول ستريت) إلى إطلاق تحذيرات بشأن الاستثمار الأجنبي في البرازيل، والمخاطر التي يمكن أن تكتنفها في حال فوز المناضل اليساري لويس إينياسيو داسيلفا، لكن هذا الأخير تبنى عقب انتخابه سياسات داعمة للسوق طمأنت المشاركين في أسواق رأس المال، ليتضح فيما بعد أن هؤلاء الخبراء معظمهم برازيليون ينتمون لدوائر سياسية يعتبرها حزب داسيلفا العمالي أعداء للسوق!
أما السبب الثاني فمتعلق بإصرار أحد أطراف العملية السياسية على نقلها من دائرة التنافس إلى دائرة الصراع الوجودي، أوما يسميه الدكتور جاسم سلطان بصراع الإفناء الصفري، حيث يسعى طرف إلى إنهاء الآخر إما بنيويا عبر حذفه من المشهد برمته، وإما بالإبقاء على مؤسساته مع تجريده من مشروعه وأهدافه، وأثناء هذا السعي يمكن أن يبلغ التصابي مداه لإقناع الرأي العام بضرورة الإفناء، بل الأخطر من ذلك أن يقرر طرف أنه في حال خسارته يجب أن يخسر الجميع، وأن يصبح (خيار شمشون) هو البديل الأوحد للتدافع السياسي بديل قوامه (علي وعلى أعدائي) (1).
يحيلنا الدكتور عبد الإله بلقزيز في كتابه (ثورات وخيبات) على سبب آخر للتصابي مرتبط بمسارعة القوى الحزبية إلى حصد نتائج الحراك الشبابي العربي دون امتلاك تصور دقيق لطبيعةالمرحلة الانتقالية.
فالأمر لا يتعلق فقط بوضع استثنائي تتعطل فيه المؤسسات الدستورية والتنفيذية والتمثيلية، ويُعتمد فيه على إجراءات انتقالية قبل الشروع في إعادة بناء تلك المؤسسات، وإنما يتعلق بأمر جوهري هو التوافق الوطني على قواعد البناء السياسي وإدارة السلطة، ناهيك عن التسوية الشعبوية لمسائل مصيرية كان من المفترض أن يوضع تحت تصرف الشعب تصورات واضحة لها قبل توسل الشرعية لها عبر صناديق الاقتراع، هذه الشعبوية الديموقراطية، كما يسميها الدكتور بلقزيز، كرست سلطة المنافسة الانتخابية لا سلطة الثوار المنتصرين، وأعادت للواجهة ثنائية الغالب والمغلوب بدل أن تهيء للمشاركة الجماعية في بناء السلطة الجديدة واشتقاق التفاهمات الضرورية بين الجميع حول قواعد هذا البناء.
إن كون السياسة شأنًا عامًا، يقول الدكتور جاسم سلطان، منح جرأة على الممارسة قبل أن تتوفر خلفية عميقة عن قواعد العملية السياسة ,لقد أصبحت السياسة مهنة من لا مهنة له، ومجالًا مستباحًا لكل ألوان الهواة، مما خلق حالة من الفوضى والاضطراب في مجال من أخطر المجالات، خاصة وأننا نعيش في عالم سياسي بامتياز، هذا الاقتحام غير المدروس يعيد إلى الواجهة سؤال التنشئة السياسية وضرورة الارتقاء بالخطاب السياسي، وتحرير المشهد من مخلفات السعي البغيض للنفوذ والثروة!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لمزيد من التفصيل يراجع كتاب (قواعد في الممارسة السياسية) للدكتور جاسم سلطان.
حميد بن خيبش
كاتب إسلامي
- التصنيف: