بيان في التحذير من الغلو والاستخفاف بالدماء

منذ 2015-07-18

وقد تمادى هذا التنظيم وأتباعه في الاستهانة بالتكفير والدماء؛ فكفّروا الكثير من المجاهدين في بلاد الشام، واستباحوا دماءهم، وامتدت أعمالهم خارج حدود دولتهم المزعومة في العراق والشام، فاستهدفوا رجال الأمن، وطوائف من غير أهل السنة، وأماكن عبادتهم، ودفعوا ببعض أبناء المسلمين إلى قتل أنفسهم تحت ذريعة الاستشهاد والإثخان في العدو، وقد نهى الله عز وجل عن قتل النفس

الحمد لله رب العالمين، معز المؤمنين ومخزي الكافرين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو في الدين، وأخبر أنه سبب هلاك من كان قبلنا فقال: «إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»(أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه الألباني).

وقد وقع ما حذر منه صلى الله عليه وسلم فجنحت طوائف من أمته إلى الغلو، وتعددت صوره وآثاره في التاريخ الإسلامي: وكان من نتائجه قتل الغلاة للخليفتين الراشدين عثمان وعلي رضي الله عنهما، وطائفة غيرهما من الصحابة وأبنائهم.

وامتدت ظواهر الغلو خلال تاريخ الأمة بين مد وجزر حتى عصرنا الحاضر، فكان من أعظم مظاهر الغلو والتعدي ما يقوم به ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية -ومن سار على طريقته وإن اختلفت المسميات- من الاستهانة بالتكفير، والاستخفاف بالدماء، وإغفال المصالح الشرعية، والنكوص عن الأخذ برأي العلماء والرجوع إليهم، والعبث بأمن بلاد المسلمين، والتغرير بالشباب، واستغلال عاطفتهم نحو الجهاد في سبيل الله.

وقد عَظَّمَ صلى الله عليه وسلم تكفير المؤمن فقال: «ومن قذف مؤمنًا بكفر فهو كقتله» (أخرجه البخاري)، وبيّن عليه الصلاة والسلام عظم جرم سفك الدم الحرام فقال: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا»(أخرجه البخاري)، وتبرأ صلى الله عليه وسلم ممن يستهين بدماء المسلمين فقال: «ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه»(أخرجه مسلم).

وقد تمادى هذا التنظيم وأتباعه في الاستهانة بالتكفير والدماء؛ فكفّروا الكثير من المجاهدين في بلاد الشام، واستباحوا دماءهم، وامتدت أعمالهم خارج حدود دولتهم المزعومة في العراق والشام، فاستهدفوا رجال الأمن، وطوائف من غير أهل السنة، وأماكن عبادتهم، ودفعوا ببعض أبناء المسلمين إلى قتل أنفسهم تحت ذريعة الاستشهاد والإثخان في العدو، وقد نهى الله عز وجل عن قتل النفس فقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء من الآية:29]، وأوعد النبي صلى الله عليه وسلم من قتل النفس، فقال: «من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله»(متفق عليه).

وآخر جرائمهم ما حدث من التفجيرين في القديح، وفي مسجد الحسين في حي العنود بالدمام الذي يغلب على الظن أنه من فعلهم، وهما جريمتان لا يسوغهما مخالفة من استهدف بهذين التفجيرين لأهل السنة في المعتقد، فوقوع جماعة في انحرافات عقدية لا يسوغ الاعتداء عليها، كما أن إقامة الحدود والعقوبات ليس لآحاد الناس وإلا لأدى إلى فوضى تضيع معها كل الحقوق، ولا يجوز بحال إغفال المآلات الفاسدة لهذه الأعمال في ديار المسلمين التي ستأتي الإشارة إلى جانب منها، وقد أمرنا في قتال المحاربين من الكفار الأصليين الذين لا أمان لهم ولا شبهة بأن ﻻ نعتدي على الرهبان في معابدهم، فكيف بمبتدعة موادَعين، لهم من الأمان حظ ونصيب لا ينكره عالم!

وتأتي هذه الجرائم في الوقت الذي يجتمع فيه كيد الأعداء من الشرق والغرب، ويتنامى فيه المد الصفوي متحولًا من تصدير الثورة إلى تصدير الإفساد والعنف، والسعي لاستثمار العواطف غير المرشدة من بعض شباب الأمة.

وحسن نية من يقوم ببعض هذه الأعمال، أو تسمية هذا العمل بالجهاد في سبيل الله، لا يصحح العمل، ولا يعذر أصحابه، وقد أخبرنا الله عز وجل أن الأخسرين هم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104].

فلا مجال للاعتذار لهذه الأعمال الشنيعة باجتهاد أصحابها؛ فالاجتهاد له أهله، وله مواضيعه، أما دماء المسلمين وأموالهم العامة أو الخاصة، وأمنهم، فلا يسوغ إهدارها بدعوى الاجتهاد، ولا مجال للاعتذار لهذه الأعمال بما يحصل للأمة من أزمات ومصائب، وعدوان من قوى الكفر والاستكبار؛ فإصلاح ذلك إنما يكون بالسبل الشرعية.

وعلاوة على المفاسد العظمى لهذا الغلو من نحو الاستهانة بالتكفير وإراقة الدماء وزعزعة الأمن، فقد نشأ عن هذه الأعمال مفاسد عدة، من أهمها ما يأتي:

•    إثارة الفتن والصراعات داخل مجتمعات المسلمين الآمنة.

•    استغلال العدو للغلاة في تحقيق أهدافه الخبيثة، فقد أصبحوا مطايا يوظفون لصالح الأعداء علموا أم لم يعلموا.

•    توظيف هذه الأحداث في ابتزاز أهل السنة بأفعال من يحسبون عليهم وليسوا في الحقيقة منهم، كما في استغلال الأعداء لهذه الأحداث في المطالبة بتغيير المناهج، أو التضييق على وسائل الإعلام التي تحارب العقائد المنحرفة، أو وضع أهل السنة موضع الاتهام مع أن أهل السنة في عامة بلاد المسلمين هم أكثر ضحايا هذا الغلو.

•    استغلال أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين لهذه الأحداث للطعن في الدين،  والجرأة على أصوله ومحكماته، ووصم أهل السنة بتهمة التكفير، وعدم التفريق بينهم وبين الخوارج أهل الغلو.

•    الجرأة على أهل العلم والمصلحين، واتهامهم، والطعن في نواياهم، وتسفيه مشاريعهم الدعوية، والإزراء بجهودهم في نصرة الدين والمستضعفين من أهله.

•    التغرير ببعض الشباب المستقيم وحرفهم عن جادة النفع مسوِّلين لهم أن السير على طريق الغلاة ومناهجهم الفاسدة هو طريق الغيورين وسبيل نصرة الدين.

•    فتح الذريعة لمحاصرة الأعمال الدعوية والخيرية، والتضييق عليها باسم مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه.

•    تشويه شريعة الجهاد التي بين منزلتها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»(رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي وصححه الألباني)، حتى أصبح من يتحدث عن هذه الشعيرة العظيمة أو يدعو إليها أو يذكر فضائلها متهمًا بالإرهاب ودعم أهله عند كثير من ضعفاء البصائر.

•    إعاقة الجهاد الشرعي، والفت في عضد المجاهدين، والتسبب في تأخير نصرهم، وقطع الإمدادات عنهم.

•    تعريض عدد من الصالحين الذين لا صلة لهم بالغلو من قريب ولا بعيد للظلم والمضايقات.

وقيامًا بواجب النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم فإننا نحذر من الغلو في الدين، وندعو من زلت قدمه على طريق الغلاة إلى أن يقف مع نفسه ويحاسبها، وأن يكون جريئًا على مراجعة حاله، مبادرًا بالتوبة إلى الله، وأن يعلم أن ما قد يلحقه من ضيق وأذى برجوعه عن الباطل، خير من أن يلقى الله عز وجل بدماء معصومة وأنفس محترمة قد انتهكها.

كما ندعو حكام المسلمين إلى أن يجففوا منابع هذا الفساد بالتحاكم إلى شرع الله، وحمل الناس على المعروف، ونهيهم عن المنكر، والتعامل الشرعي مع مثل هذه الأفكار عن طريق العلماء الربانيين الذين بنور علمهم تزال ظلمات الجهل وتنكشف الشبهات عند من اغتر بالغلاة أو استخفه رأيهم.

كما ندعو المسلمين جميعًا إلى التوبة إلى الله عز وجل، وإصلاح أحوالهم؛ فالذنوب من أكبر أسباب ظهور الفساد واختلال الأمن.

مؤكدين على أن محكمات الدين لا يجوز أن تمس ولا أن يستهان بها، ومنها: مكانة الجهاد العالية من الدين، وحق الشعوب في مقاومة العدوان، وواجبهم في موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.  كما نؤكد على أن الغلو لا يجوز أن يقابل بغلو آخر، إنما يعالج بالمنهج الشرعي الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة.

هذا والله نسأل أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يقي مجتمعاتنا الفتن ما ظهر منه وما بطن، وأن يعلي كلمته، وينصر دينه وأولياءه، ويخذل أعداءه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 

مجموعة من العلماء والدعاة
13 شعبان 1436 هـ