تعايش مع الوضع الجديد (مهم لكل صاحب بلاء طويل)
عندما نبتلى ببلاء فإنه لا بأس بأن نسعى في كل اتجاه مشروع ونطرق كل باب ممكن وفي قلوبنا الأمل بدفع هذا البلاء.. لكن هذا السعي الحثيث ينبغي أن يكون مرحليًا مؤقتًا.. فإذا بدا أن هذا البلاء قدر ثابتٌ مستمر اختاره الله لنا، فإن من الحكمة أن نعيد توجيه جهودنا من مدافعة هذا البلاء إلى التعايش معه.
أصيب الأب بمرض يضعف قدرته بالتدريج .. أخبر الطبيب العائلة أن المرض مزمن وأن العلاجات إنما هي لإبطاء تدهور الحالة فقط. رفض الأبناء هذه الحقيقة! ذهبوا إلى طبيب ثانٍ وثالث، أجروا تحاليل متقدمة، أوصوا ابن عمهم في كندا بإرسال دواء جديد، طرقوا باب العلاج الطبيعي، جربوا الأعشاب.. ولكن أباهم يتراجع شهرًا بعد شهر.
بكوا عندما تعثر أبوهم للمرة الأولى إنذارًا ببدء مرحلة فقدان التوازن، انحبست الدمعة في أعينهم عندما فشل للمرة الأولى في رفع اللقمة إلى فمه، تجهمت وجوههم حزنًا عندما بدأ يحتاج من يساعده في قضاء حاجته..
في هذه المحطات كلها كانوا يقولون: (ليس هذا أبانا الذي عرفناه.. نريد أبانا الذي عرفناه! نريد أبانا القوي النشيط.. لقد كان أبونا يقيل عثراتنا.. كان هو يلاطفنا ويطعمنا بيده على المائدة.. لقد كان وكان.. أبونا لم يهرم بعد.. مازال في الخمسينات.. أعمامنا الذين يكبرونه سنًا في صحة وعافية. لعلها سحابة صيف ستنقشع.. لعل الأطباء جميعًا مخطئون في التشخيص.. نريد أبانا الذي كان).
كان الأب يقرأ ذلك كله في عيون أبنائه وقسمات وجوههم فيحزن لحزنهم.. ولكي يُرَضِّيَ نفسه عن قدره ولا يزداد همًا أصبح يتجنب النظر في وجوههم أصلًا! لم يعد يتحمل رؤية الإشفاق المختلط بالأمل الوهمي.. لقد مرت سنوات ولا زال الأبناء ينطحون صخرة الواقع، وتذبل زهرة قلوبهم وهم يرون أباهم يذبل.
إننا نُتعب أنفسنا عندما نرفض واقعًا جديدًا سيستمر؛ عندما نرفض التعايش مع هذا الواقع، عندما نصر على أننا لا نريد أي (خسائر) في هذه الحياة الدنيا!
أبناء هذا الرجل المريض رفضوا حقيقة أنهم قد ابتلوا بمرض أبيهم الحبيب مرضًا مزمنًا. أخذوا بالأسباب المادية كلها، وهذا شيء محمود.. لكنهم بدئوا يخطئون عندما بدا واضحًا أن أباهم لن يعود كما كان بحسب السنن المعهودة، فرفضوا هذه الحقيقة لأنها مرة.. لم يتعايشوا معها ولم يتقبلوها.. فتعبوا وأتعبوا أباهم معهم!
عندما نبتلى ببلاء فإنه لا بأس بأن نسعى في كل اتجاه مشروع ونطرق كل باب ممكن وفي قلوبنا الأمل بدفع هذا البلاء.. لكن هذا السعي الحثيث ينبغي أن يكون مرحليًا مؤقتًا.. فإذا بدا أن هذا البلاء قدر ثابتٌ مستمر اختاره الله لنا، فإن من الحكمة أن نعيد توجيه جهودنا من مدافعة هذا البلاء إلى التعايش معه.
كثيرون هم من سيرفضون هذا الكلام باعتباره دعوة للاستسلام أمام البلاء..
فتعالوا أيها الأحبة نناقش الأمر بتروٍّ: أيهما أفضل؟! أن يقول أبناء هذا الرجل المبتلى لأبيهم: (اصبر يا أبانا.. لعل مرضك هذا يكون سببًا في دخول الجنة. ماذا يضيرك إن كنت ستنسى تعب الدنيا كله بغمسة في الجنة؟! ثم نحن أولادك أجزاء منك؛ نحن يداك ورجلاك وسمعك وبصرك.. ما عليك الآن إلا أن تستريح وتأمرنا بما شئت لنخدمك بعيوننا وننال أجر برِّك. نسأل الله أن يكون مرضك دلالة على حب الله لك، فإن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عز وجل إذا أحب قوما ابتلاهم).
أهذا أفضل، أم أن يدغدغوا عواطف أبيهم بكلمات الأمل في الشفاء فترتفع معنويات المسكين وتنشط نفسه مؤقتًا ثم يتكشف له مع مرور الوقت أنه أمل وهمي زائف، فيضمحل التفاؤل ويعظم اليأس وتنتكس النفس؟
أيها أفضل؟ أن يركز الأبناء جهودهم على تكييف حياة أبيهم حسب المرض بجدولة أوقاتهم لتقاسم خدمته وتوفير الأدوات اللازمة لاحتياجاته الشخصية اليومية بما يناسب مرضه، وإدماجه في نشاطات تناسب مرضه وتملأ وقته.. أم أن يُبقوا كل شيء على ما هو عليه لأن أباهم (سيعود كما كان) ويذهبوا بأبيهم إلى الطبيب السادس والسابع ويجربوا له وخز الإبر الصينية وإبر النحل، ويعلقوا قلبه بقصص غير دقيقة سمعوها عن رجل شفي من المرض نفسه بعشبة لدى المعالج الفلاني.. وفي كل مرة يذهب معهم المسكين بأمل جديد ويرجع بانتكاسة.
سيقول قائل: (ولماذا لا يُجمع بينهما: الأمل والتعايش؟).. إن الواقع يشهد بأنه لا بد لأحد هذين الخيارين أن يكون الأصل والآخر الاستثناء، وأن النفس لا تجمع بين ذروة الأمل بزوال البلاء والتعايش معه بشكل كفؤ والصبر عليه. لا بد لأحدهما أن يحتل مساحة أكبر من التفكير والجهد.
ففي مثالنا، بقاء الأمل بالشفاء في ذروته يعني ضمنيًا أنه (ليس هذا هو الوضع الذي نريده لأبينا)، وهذا الهاجس يزعزع الصبر ويُصَعِّب التعايش ويفوت فرص الاستثمار المجدي للوقت والجهد.
إننا ننصح من ابتلي بما هو طويل الأمد عادة أن يعتبر الوضع الجديد هو الأصل، والعودة إلى ما كان عليه قبل البلاء استثناءً. فهذا أدعى إلى أن يلتفت المبتَلى إلى مباهج جديدة في حياته تشغله عن الشعور بنقص النعمة التي فقدها.. فينطلق من جديد في الحياة بما يتوفر لديه من مقومات. فإن قدَّر الله خلاف المألوف وكشف هذا البلاء كان الفرج زيادة وخيرًا على خير . أما أن افترض المبتلى أن الأصل هو زوال هذا البلاء فإنه سيبقى يشعر بنقص في حياته وفجوة في قلبه، وسيشغله هذا الشعور عن ملاحظة المباهج الأخرى في حياته، وسيكون حديث وتفكيره منصبًا على البلاء فيدور في حلقة القلق المفرغة.. وقد يوصله ذلك إلى ازدراء نعمة الله عليه!
سيقول قائل: لكني أعرف أمثلة من أناس خُرقت لهم العادة! فلانٌ قَنَّطَهُ الأطباء من الشفاء فشفي، فلان حكم عليه بالسجن لخمسة أعوام ثم حصل ما لم يتوقع وأفرج عنه بعد عام، فلانة تجاوزت الثلاثين لكنها رزقت بعد ذلك زوجًا كامل الصفات.. فقد يحصل معي كما حصل مع هؤلاء.
ها قد قلتها: (قد يحصل).. وقد لا يحصل!
فوطِّن نفسك يا أخي ويا أختي على ما يغلب على الظن حصوله عادة، وابحث عن مباهج أخرى في حياتك، وأولها وأعظمها ما لن تحرمه إذا طلبته بصدق: رحمة الله تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٨].
فحينئذ سيمتلئ قلبك أُنسًا بالله تعالى ورضًا بقضائه وتوكلًا عليه وحسن ظن به..
وأبقِ مع ذلك كله.. شمعة الأمل مضاءة.