أبو عمر المقدسي - شيخ الحنابلة المقادسة في صالحية دمشق

منذ 2015-08-11

يعود تاريخ (المقادسة) الذين هاجروا من القرى المجاورة لنابلس إلى دمشق، إلى منتصف القرن السادس الهجري، الموافق منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، بعدما احتل الصليبيون فلسطين وما جاورها، وقسّموها إلى إقطاعات.

يعود تاريخ (المقادسة) الذين هاجروا من القرى المجاورة لنابلس إلى دمشق، إلى منتصف القرن السادس الهجري، الموافق منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، بعدما احتل الصليبيون فلسطين وما جاورها، وقسّموها إلى إقطاعات، وأذلوا أهلها، وعاملوهم بقسوةٍ ووحشية، وقتلوا الكثيرين منهم، واستخدموهم في زراعة الأرض وفلاحتها بالسُّخرة.

وفي إقطاعية نابلس كان (باليان) الفرنسي الحاكم فيها، فقتل وعذّب الأهالي، وقطّع الأيدي والأرجل، وكان من أظلم الفرنج وأعتاهم.

في تلك الفترة، عُرف في قرية (جمّاعيل) القريبة من نابلس، عالِم تقي، هو الشيخ أحمد، المعروف بـ (ابن قدامة المقدسي)، وكان يُقرئ القرآن ويخطب في الناس الجمعات ويعظ أهل القرى، فأخذ عنه كثيرون، منهم أولاده وإخوته وأبناء عمومته وأهله، ولمّا بلغ (باليان) الحاكم على جمّاعيل ما يقوم به الشيخ أحمد، ابن قدامة، ساءه أمره وأزمع على قتله، فجاء من نصحه بمغادرة (جمّاعيل)، وعندئذ عرف أنه لا يستطيع إظهار دينه مع عجزه وضعفه، فقرّر مغادرة بلده مهاجرًا في سبيل الله إلى دمشق، إذ كان فيها من تردد عليهم قبل ذلك.

هجرته سرًا إلى دمشق:

وفي رجب من العام 551هـ، رحل سرًا بصحبة ثلاثة من أقاربه، وانطلق الركب يقصدون دمشق، يسيرون ليلًا، ويختفون نهارًا، حتى وصلوا إلى غايتهم من دمشق، فنزلوا في مسجد أبي صالح خارج (باب شرقي)، وكانوا في ضيافة أصدقائهم (بني الحنبلي) المتولين على وقف المسجد وإمامته، ثم إنه لمّا استقر لم ترتح نفس الشيخ أحمد، حتى أرسل إلى أهله يأمرهم بالهجرة إليه. وعندئذ هاجر أولاده: (أبو عمر محمد، والموفق عبد الله، وعبيد الله)، وعدد من حفدته وأصهاره، وبلغ جميعهم خمسًا وثلاثين نفسًا، مرّت عليهم في طريقهم مِحن وشدائد انتهت بتسليم الله لهم وحفظه، ثم توالت هجرة أهليهم ومن أهالي القرى المجاورة، على أن مسجد أبي صالح الذي نزلوا فيه لم يتسع للسكن، كما أن المستنقعات المحيطة به سببت أمراضًا لهم، فمات عدد كبير منهم.

دير الحنابلة:

وفي تلك الأثناء، حضر رجل صالح يدعى (أحمد الكهفي)، يملك ديرًا في سفح (قاسيون)، فعرضه على (ابن قدامة)، فسار معه ليشاهده فأعجبه مع بُعده عن دمشق، وانزوائه عن الناس، ووجوده في منطقة مهجورة يألفها اللصوص وقطّاع الطرق والوحوش ليلًا. وفي هذا الدير القديم، بنى الشيخ أحمد ثلاثة بيوت له ولأولاده، فكان القوم يحرسون بيوتهم في الليل، خشية الوحوش، وتحسبًا من اللصوص الذين كانوا يتربصون بالأطفال، فيخطفونهم ويبيعونهم للفرنج، ثم أخذت الدور تتسع، وأطلق عليها (دير الحنابلة)، لأن مذهب المهاجرين كان حنبليًا.

(الصالحون) و(الصالحية):

واتسعت شهرتهم فتوافد إليهم الزوار، وكان السلطان الشهيد نور الدين محمود بن زنكي، من بين زوار الشيخ أحمد، يقصده بين الفينة والأخرى، لما عُرِف عنه من التقوى والزهد والصلاح، وكذلك كان من حوله من أولاده وأقربائه، فسمُّوا (الصالحين)، وسُميت المنطقة (الصالحية)، وقال شاعرهم:

الصالحيةُ جنةُ والصالحون بها أقَاموا *** فعلى الديار وأهلِها مني التحيةُ والسلامُ

انتهاء الأجل:

ثم إن الشيخ أحمد (ابن قدامة)، آثر التخلي عن أمور الدنيا، فاعتزل الناس للخلوة والعبادة، تاركًا تصريف شؤون أهله وجماعته إلى ابنه الأكبر أبي عمر محمد، فكان مرجعهم ومفزعهم في طوار حياتهم، ولم يلبث والده الشيخ أحمد أن توفي في سنة 558هـ، وخلفه أولاده، وأشهرهم أبو عمر، مؤسس المدرسة العمرية، والمشرف على بناء الجامع المظفري، (جامع الحنابلة)، وابنه الآخر الشيخ الموفق عبد الله، صاحب كتاب: (المغني) أكبر موسوعة في فقه الحنابلة وأشهرها وأوثقها.

ينام على حصير:

أبو عمر أكبر أبناء أبيه، ولد في (جمّاعيل) في السنة 528هـ، هاجر إلى دمشق وعمره ثلاث وعشرون سنة، تلقى العلم على والده، وأخذ عن علماء دمشق والواردين إليها، وحفظ القرآن الكريم وكتاب: (الخرقي) في فقه الحنابلة وغيره من المتون في الفقه والنحو، ورحل إلى مصر، فسمع من علمائها الحديث الشريف، وتلقى بعض العلوم على مشاهيرها، كـ (ابن بري) وغيره، ولمّا رجع إلى دمشق، أخذ يعلم الناس ويرشدهم، ويعين أهله ويتعهدهم بالرعاية والنفقة وشؤون الحياة العلمية والاجتماعية.

وسيرة أبي عمر تُذكِّر بسير الصالحين من كبار التابعين، فهو إذا ذُكِر الزهاد في عصره كان أزهدهم: تخلى عن الدنيا، وآثر أقاربه على نفسه فيها، فكان يتصدق بكل ما يملك، حتى لربما وهب ثيابه في الشتاء، وخرج بجبةٍ ليس يحميه دونها ثوب داخلي، وقد يبقى مدة طويلة لا سراويل عنده، ينام على حصير، ويأكل خبز الشعير، ويتخذ ثيابه من الخام، وإذا ذُكِر المجاهدون سبقهم إلى الجهاد مع إخوته ومن يقدر من أبناء أسرته، فشارك جيش نور الدين في غزواته، وشارك صلاح الدين الأيوبي فتح بيت المقدس، وكان مقدامًا شجاعًا ينتدب نفسه من دون إخوانه المجاهدين لحراستهم ليلًا، يأمرهم أن يناموا، بينما هو في الصلاة والحراسة.

هَمّه لله وعباده:

كان همُّ (أبي عمر) خدمة العلم والعلماء وخدمة أهله، فكان ينسخ المصاحف والكتب ويهديها إلى الطلاب مجانًا، كما كان يبني بيديه المدرسة التي سُمِّيت باسمه (المدرسة العمرية) والجامع المشهور بـ (الحنابلة) بالقرب منها، وهو أقدم جامع في (الصالحية)، وما زال معمورًا بطاعة الله، فهما يشهدان له بما قدّمه من أعمالٍ مباركة وصدقات جارية، وكان لا يشغله شيء عن شيء، وكذلك يبني المصنع الذي يجمع فيه الماء للشرب والسقي.

إلى جانب ذلك، كان يجلس ليُعلِّم، وكذلك يتابع تلقيه عن العلماء، وخاصةً الواردين إلى دمشق، ولا تسل عن عبادته، إذ كان يقوم الليل أكثره، ويصوم النهار، ويُكثِر من تلاوة القرآن والذكر، وكانت له في كل يومٍ وليلة اثنتان وسبعون ركعة في صلاةٍ طويلة خاشعة.

وزِد على ذلك.. اهتمامه بشؤون المسلمين اهتمامًا ليس عليه مزيد، يدعو للمسافرين وخاصةً الراحلين في طلب العلم، فيتفقد من خلفوهم من أهلهم، ويقوم بمصالح الناس، ويسهر على المصالح العامة والخاصة، كشؤون النهر المجاور لمنطقتهم، وشؤون الفقراء وسكنهم، ويسعى عند الحكام في حل مشكلات الناس، ولذلك، فلا عجب أن وضع الله له القبول والمحبة في قلوب الخلق، ولا عجب.. كذلك، أن ظهرت كراماته وأحواله، وهذا ما دعا الإمام (سبط ابن الجوزي)، الذي هاجر من بغداد إليهم إلى قول مقولته المشهورة: "شاهدت في الشيخ أبي عمر وأخيه الموفق، ونسيبه العماد إبراهيم، ما نرويه عن الصحابة والأولياء والأفراد، فأنساني أهلي وأوطاني، ثم عُدت إليهم على نية الإقامة عسى أن أكون معهم في دار المقامة".

(المقادسة) و(الصالحية):

ونتيجة لهذا السلوك الرباني من الشيخ (أبي عمر) وإخوانه وأهله وأنسبائه، في التعلم والتعليم والنهج على سيرة السلف الصالحين من الزهد والخير والورع والعبادة والإخلاص، بلغ (المقادسة) الصالحون الدرجة العالية في العلم والرقي، حتى أصبحت (الصالحية) بلدة معمورة ذات حضارة متميزة، في خلال فترة وجيزة من الزمان، وهذه الحضارة انتشرت آثارها في البلاد، فقصدهم العلماء والطلبة يتلقى عنهم العلماء بعدما رحل كثير منهم إلى مشارق العالم الإسلامي، وعادوا بحِملٍ وافر من العلوم والمخطوطات والأسانيد العالية التي تلقوها عن أشياخهم ولذلك، قصدهم الناس من البلدان البعيدة، لِما عُرفِوا به من العلم الوافر والزهد الكبير والتقى والصلاح.

سحابة تظلّهم:

توفي أبو عمر، محمد بن أحمد، ابن قدامة المقدسي، في يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة 607هـ، بعدما استقبل القبلة موصيًا أهله بقوله: "اقرؤوا سورة يس"، وكان يُردِّد قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة من الآية:132].

وخرجت جنازة أبي عمر حافلة في يومٍ حار، فبعث الله سحابة أظلّت المشيعين، وكان من حضر يُقدَّر بعشرين ألفًا، ولم يتخلّف عن حضور جنازته إلا القليل من الناس.

لم يخلّف هذا العالم الزاهد -الذي بلغ الثمانين- شيئًا من المال، ولكن الله بارك له في مدرسته التي أنشأها لتعليم القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه وخاصةً الحنبلي، وفي الجامع الذي أشرف على بنائه وخطب فيه وأَمّه، وبارك الله في نسله الذي أعقبه.

رحمه الله وجزاه الخير على ما قدم من أعمال مبرورة.

-------------------------------------------------

المصادر والمراجع:

- (فضائل أبي عمر المقدسي؛ تأليف: الحافظ ضياء الدين المقدسي، نُشِر ضمن كتاب: المدرسة العمرية، تأليف الدكتور: محمد مطيع الحافظ، ص: [54-95]).

- (جامع الحنابلة المظفري بصالحية دمشق؛ تأليف: د. محمد مطيع الحافظ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1423هـ).

- (التكملة لوفيات النقلة: [2/202]).

- (ذيل الروضتين: [71]).

- (الذيل على طبقات الحنابلة: [2/52]).

- (تاريخ الإسلام؛ للذهبي: [266]).

- (القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية؛ لابن طولون الدمشقي).
 

محمد مطيع الحافظ